أستهل بما سطر الخلف عن السلف والولد عن والده، إنها عبارة أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في تغريدة على «تويتر»، قال فيها: (يصادف «اليوم» ذكرى رحيل مؤسس دبي الحديثة الشيخ راشد بن سعيد، طيّب الله ثراه، الذي أسس يدًا بيد مع الشيخ زايد بن سلطان اتحاد الإمارات، ندرك حين نتأمل سيرته العظيمة وإنجازاته أن للوطن أسسًا راسخة وضعها قادةٌ مباركون نحن امتدادهم على هذه الأرض، وسنكمل المسيرة على نهجهم من أجل مستقبل أفضل).

الشيخ راشد، رحمه الله، باني حضارة دبي وتاريخها جزء لصيق من تاريخ الإمارات، إن خور دبي بالذات له تاريخ لا يقل عن خمسة آلاف عام، من هنا يأتي أحد أسماء دبي القديمة بـ«الوصل»، فهي حلقة الوصل بالعالم منذ ذاك العمق التاريخي. نتعمق قليلاً في فكر راشد الحضاري، من هذا الشريان الذي يربط قارات العالم في تجارة إعادة التصدير، ويبشرنا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في مقوله على «تويتر»: (لأول مرة تجارتنا الخارجية غير النفطية تتجاوز حاجز التريليون درهم خلال نصف عام فقط.. لتصل لتريليون و58 مليار درهم بنمو 17 في المئة عن نصف العام السابق..).

فكرة الوصل لدى الشيخ راشد كانت أعمق من عمق الخور ذاته، فقد شرع في إنشاء أول جسر بين البرين في أوائل ستينيات القرن العشرين، حيث ربط البرين بجسر آل مكتوم الذي كان سبباً مباشراً لتغيير وجه الحياة في دبي ككل، وكان أول جسر في الإمارة والدولة كذلك يفرض رسماً رمزياً وكان قدره 25 فلساً على المركبة، إلى أن استكمل تكاليفه فعاد العبور بالمجان، وفي ذاك رؤية اقتصادية راقية تنم عن فكر تنموي سبق زمانه بعقود.

وعلى ضفاف الخور سيمفونية دينية تعزف لتعبر عن روح الحضارة، «ألف باؤها» جامع لأهل السُنة، وبجواره جامع آخر لإخواننا الشيعة محاط بمآتمهم وإدارات أوقافهم. ومن خلفهما معبد هندوسي تقام شعائره في وضح النهار وبالليل أمام الناظرين، ومن بعدها بقليل كنيسة بروتستانتية بنيت مع بناء دبي.

وفي منطقة «الراس» تطل على هذا الخور أس الحضارة الإنسانية في جميع مراحلها، أول وأقدم مكتبة عامة في إمارة دبي، والتي تأسست في عام 1962م، وكانت محرابنا العلمي والثقافي آنذاك، ولا زالت فروعها المنتشرة في معظم مناطق دبي تزود عقولنا بكل نتاج فكر العالم.

و لم يكتف الشيخ راشد بجسر آل مكتوم للوصل بين البرين، حيث تفتق عقله وذهنه الوقاد عن حفر نفق في منطقة الشندغة لشد الرباط أكثر بين البرين التوأم. في حفل تدشين النسخة العربية من مجلة «نيوزويك» دار هذا الحوار على لسان الشيخ خليفة الصباح صاحب هذه المؤسسة الحديثة. محور الحديث كان عن الرؤية الحضارية والاستشرافية للشيخ راشد كما شاهده بنفسه.

يقول: في زيارة أخوية للشيخ راشد أوائل السبعينيات من القرن الماضي، دعاني لمرافقته إلى مكان لم يفصح عنه، فأقلتنا الحوامة من قصر زعبيل إلى منطقة لا أعلمها. فحلت بنا في «مقطعة» وفي الأفق الممتد بحر مفتوح بلا حد. فسألته مستغرباً: لماذا جئت بنا إلى هذه المنطقة «المقفرة» طال عمرك؟! أجاب الشيخ راشد: لبناء ميناء في هذا المكان! يقول الشيخ الصباح: حاولت ثنيه عن هذه الفكرة وإقناعه بالاكتفاء بميناء راشد الذي وصل صيته إلى العالم.

اليوم أدركت بعد نظر هذا الرجل العظيم في فكره المستقبلي ونحن على مشارف الألفية الثالثة، ولم يخطر يوماً على بالي أن مشروعي الإعلامي سيتم تدشينه في المنطقة ذاتها التي يحتضن فيها البحر ميناء جبل علي. يأتي الشيخ راشد ليطبق نظريته في قدرته على اختراق التحديات لتأسيس صروح المستحيلات في القلب النابض لدبي.

* كاتب إماراتي