قد يرى البعض أن الدين لا يصلح لأن يكون قومية، إذ هو يفتقد شروط القومية التي مبدؤها الجغرافيا والعرق والوعي السياسي المشترك الواضح. لكن إذا عرّفنا القومية الدينية سنجد أنها توجه جمعي لفصيل من مجموعة بشرية مؤثرة، تجعل الدين والأيديولوجيات المتبناة تحت مظلة الدين يجب أن ترتبط بالسياسة، وتكون إطاراً عاماً يسعى إلى دمج الهويات في هوية مسيطرة باسم الدين، حيث تعتمد على التأسيس الأسطوري للدول باعتبارها جزءاً من أمة دينية خصصت لتحقيق مقاصد الله على الأرض، مما يتطلب مكاناً متميزاً للدين في الحياة العامة، والاختزال للهوية الجماعية في خصوصية الدين.
ويشكل الموروث الديني عاملاً مهماً في نهضة القومية الدينية متى ما توفرت لها الظروف المناسبة، وقد تلعب بعض التنظيمات والجماعات والمؤسسات الدينية وقوى النخب الدينية وأجهزة المخابرات العامة دوراً محورياً في وضع أسس البناء القومي الديني، ولا تتوانى عن التحالف وتشكيل التكتلات حتى مع الأحزاب السياسية العلمانية واليمينية المتطرفة أو التي ترفض وجود الدين في مفهوم الدولة.
ولدى قوى القومية الدينية أحزابها الخاصة وتتعاون مع مختلف التيارات التي تخدم أهدافها، والتأثير على الشارع من خلال أذرع عديدة ومؤسسات شعبية، ولذلك نسمع عن القوميين المسيحيين والمسلمين والهندوس والقائمة تطول، وهم يلعبون دوراً مهماً في توجه دولهم والقرارات الحاسمة في السياسات الداخلية والخارجية، ويمثلون ورقة ضغط حقيقية على الحكومات، والتي هي في الغالب مخترقة من قبل تلك القوى التي تتحرك بسلاسة من خلال لوبياتها الداعمة لها.
وتعتبر القومية الدينية مجالاً للسرد المتنازع، والتعددية التي تحمل في خبايا طياتها مسارات إقصائية تأجج النزاعات بين أفراد المجتمع الواحد. وبعد ظهور القوميات الحديثة أصبحت القوميات التاريخية كالعرقية والدينية والإقليمية واللغوية والثقافية شريكاً غير مرحب به لدى الأجيال الناشئة، وتهديداً مباشراً يتعارض مع تأمين النظام والتماسك الاجتماعي، ويضرب في أسس التعايش السلمي بين الشعوب وتقبّل الآخر المختلف، وهي مناهضة للقوانين والتشريعات الدولية في العديد من مظاهرها الرئيسية مقابل التيار المدني المعتدل، وتيار العداء الصريح للدين التقليدي من الجانب الأخر، وهو تيار عالمي مصحوب بصعود صاروخي، وبوتيرة يومية متسارعة تجسد أن فكر القوميات المغلقة لا يقل خطورةً عن الإرهاب وصراعات الدمار الشامل لكونها أحد المخرجات لها.
ففي بعض الثقافات يرصد أن القومية الدينية خاضعة للتوجه الأكبر للدول، ويتم تحديد خط سيرها من خلال أهداف الدول، بدلاً من المعتقدات العقائدية العابرة للسياسة والتي تحول دون تحولها إلى لاهوت سياسي، ولذلك من المهم أن ندرك أولاً أن القومية هي شكل من أشكال الهوية. وعندما تكون الهوية إقصائية، كما هي في القومية الدينية، تكون البنية التحتية لبقاء الدول مهددة، ولهذا فالقومية الدينية تعمل على جعل النظم السياسية ضمن مفهوم الأمة بدلاً من مفهوم الدولة وتراهن على تضاؤل توسع السرد الفوقي للتقدم العلماني والليبرالي، والذي يبدو أجوف بشكل متزايد للطبقات العاملة في العالم، وهو ما يجعل للقومية الدينية عوازل حديدية فاصلة بينها وبين باقي الثقافات، وذلك كأن تعد الجماعات المناهضة للمهاجرين بالقارة الأوروبية بـ «إبقاء أوروبا مسيحية»، وتصاعد صدى القومية الدينية في المنصات الشعبوية، وخاصةً أنها تلعب على وتر المخاوف السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تثيرها العولمة بين شعوب العالم.
إذاً، بمجرد اندماج القومية في الدين يكون لها تأثيرات سياسية دائمة، وتحظى بشكل أو بآخر من أشكال الحماية الدستورية وتتأثر بها كذلك التشريعات الاجتماعية، وخاصةً عندما يكون الدين محورياً في تعريف الأمة تعريفاً معيقاً لتنوع المجتمعات، ولذلك من المهم أن يكون منطلق القوميات منطلقاً إنسانياً خالصاً ومتضمناً لكل مجالات المجتمع المدني، مما يتطلب عملاً دولياً مشتركاً، دون السعي لاستئصال الدين من الحياة العامة، وخلق فراغ ينمي الحاجة للانتماء لبدائل تشغل فجوة اضمحلال، وتسييس الهويات المحلية وشغل القوميات الدينية لذلك الفراغ.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات