في دولة لاتينية، تم إلقاء القبض على أحد كبار تجار المخدرات بعد عناء البحث الأمني لقرابة أربعين عاماً هربا من سياط القانون وعدالة صوته وإنسانية روحه. وعندما تم عرضه بين يدي القضاء، وحكم عليه بالسجن المؤبد، طلب من القاضي قبل تنفيذ الحكم عليه، أن يشفع له في تحويل الحكم من المؤبد إلى خدمة المجتمع إلى الأبد، بدل قضاء بقية سنينه بين الجدران. وقد طلب لنفسه نوعية العمل الذي يريد القيام به، ألا وهو عامل تنظيف القمامة في المدينة التي لوثها بالمخدرات حتى نهاية حياته مع قبوله أن يبقى تحت المراقبة الأمنية حتى الممات، وذلك تكفيرا عن ذنبه بعودته إلى خانة الإنسانية النافعة، وقد قبل القاضي منه هذا الطلب الإنساني. يوماً بعد آخر، يمكن للتعليم الاجتماعي والعاطفي، أن يعلم المودة والإحساس بالمسؤولية، وذلك مهم للغاية بالنسبة لاستعادة السعادة ويصير المجتمع أكثر شفقة ورحمة وهو لصالح الإنسانية وبقائها على قيد الحياة. 
يقول جاك شيراك في مذكراته: «إن الإنسانوية تقوم على القناعة بأن ما من شيء جيد أو عظيم يمكن أن يتحقق دون الإنسان والاحترام الكامل للحريات والحقوق الفردية التي بدورها تستمد مشروعيتها من الواجبات التي تقع على كل واحد. الإنسانوية هي تأكيد للكرامة المطلقة لكل إنسان». 
المعجزة الحقيقية في هذه الحياة أن تكون إنساناً، تمشي بين الناس وتصبر على أذاهم ولا تفقد مبادئ الأخلاق، فلا تكذب ولا تسرق ولا تغش ولا تغتب ولا تخون ثقتهم واعتمادهم عليك ولا تكسر قلوبهم، فكن إنساناً ذا معجزةٍ حقيقية. من الأسهل على المرء أن يصف أي مكان، أي صخرة، أي جبل، أي بحر. أما الناس فأكثر تعقيدا. ما سبيل اقتناص جوهر شخص معين، كيان محدد، من خلال كلمة واحدة؟ تستطيع أن تؤنسن مشهدًا ولكن كيف تؤنسن كائنا بشريا؟ بوصفنا صحفيين ننعم بترف النظر إلى الناس كما هم. وحري بنا الدخول من باب الأنثروبولوجيا إلى المجتمعات للبحث في مفاصلها عن الحس الإنساني. في مقاهي بغداد القرن التاسع عشر «كان المرحوم حسين المختار لا يسأل الخارج من المقهى ماذا شرب، بل يترك الأمور للزبون سواء دفع ما عليه من حساب أو لم يدفع. وكان الغداء يأتيه من البيت كل يوم فيدعو من حوله من أصدقاء ومعارف وما أكثرهم ليشاركوه اللقمة الهنية، ويوم لا يجد من يشاركه غداءه يضطر إلى دعوة من يمر أمام مقهاه من مستطرقين وفيهم العامل والكادح والعمال وصباغ الأحذية، وكان يمتلك حسا إنسانيا عالي النبل والرهافة وسمو الشعور في سجيته». 
إنه أحد الألغاز الجميلة للروح الإنسانية، أنه حتى في أسوأ الأحوال، لم يتوقف الناس عن متابعة الحياة. شيء ما في أعماقنا يقول لنا: إياكم أن تتوقفوا ! خذوا نفسا! تابعوا التنفس طالما بقيت رئاتكم قادرة على استقبال الهواء! 
إنها طريقة لرؤية العالم أكثر عناية، وأكثر حكمة في تعامله مع تحديات الحياة الاجتماعية، عالما مناسبا لمتطلبات كوكب مترابط داخليا، هذه رؤية للإنسان ذاته. على قدر وضوحها ندرك قيمتها لبناء صرح المجتمع على ضوئه، حتى لا يتحول الإنسان إلى موات.
* كاتب إماراتي