«دبلوماسية الطاقة» ليس بالمصطلح الخديج تاريخياً، إلا أن مستوى حضوره على خلفية الأزمة الأوكرانية أسهم في تصدره للمشهد الدولي من مناظير عدة وليس فقط أمن الطاقة الأوروبي. فالاتفاق الإسرائيلي اللبناني مضافاً إليه قرار دول «أوبك+» خفض إنتاجها اليومي بمعدل مليوني برميل بدءاً من نوفمبر المقبل، كله يعبر عنها.

فالقاسم المشترك بين كل ما تقدم هو تغليب «مبدأ الضرورة» كمسرع في إعادة التعريف بمفهوم التعاون الإقليمي والدولي. ففي حين فشلت الدبلوماسية التقليدية في حلحلة الأزمات نتيجة تضارب المصالح، احتكم الاتفاق اللبناني الإسرائيلي لمبدأ تقاطع المصالح (الوطنية/ الإقليمية/ الدولية)، فكانت دبلوماسية الطاقة هي الآلية التي اعتمدتها واشنطن ونجحت في تحقيق ذلك الاختراق التاريخي.

المنظور الآخر هو الأزمة القائمة بين واشنطن والرياض نتيجة تسيس الأولى قرار مجموعة «أوبك+» خفض انتاجها من الخام بمعدل مليوني برميل بدء من نوفمبر المقبل، وتحميل الرياض منفردة مسؤولية ذلك دون سواها، بل وانكار الإدارة أي محاولات تنسيق مسبق مع الرياض ومطالبتها الرياض تأجيل القرار لما بعد نوفمبر (أي موعد الانتخابات النصفية). أما تذرعها «بانحياز الرياض ألى جانب موسكو في الأزمة الأوكرانية» قد أفقده بعض المصداقية أمام الناخب الأميركي، خصوصاً أن القرار صادر عن اجتماع دوري وليس آخر طارئ، وجاء احتكاماً لمبدأ الضرورة (ضمان استقرار الأسعار لمصلحة طرفي المعادلة).

أما تفادي واشنطن نقاش أي مسؤولية كونها الدولة الأكبر انتاجاً لمصادر الطاقة الأحفورية، فإن السبب الرئيس لارتفاع الأسعار لدى المستهلك هو بناها التحتية المتهالكة (مصافي النفط تحديداً) لتراجع جدوى الاستثمار نتيجةً للتشريعات. احتواء الأزمة الأوكرانية بكل الوسائط الممكنة هو الأولوية الآن، والمجتمع الدولي في حاجة لقيادات دولية قادرة على استثمار جزء من رأس مالها الدبلوماسي في اجتراح الحلول بالاحتكام لمبدأ الضرورة (آليات خفض حدة الصراع وتقديم تقاطع المصالح) بدل تعميق حالة الاستقطاب.

وبحسب المؤشرات الصادرة عن واشنطن باتجاه موسكو خلال 72 ساعة الماضية لما احتوته من إشارات صريحة بجدوى «التفاوض» قد يعد مؤشراً لوجود مثل تلك الجهود، فهل حققت زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات ذلك الاختراق المأمول. بالتأكيد أن الشيخ محمد بن زايد يحظى بثقة جميع الأطراف، وخصوصاً لدى واشنطن وموسكو، وإلا ما كان لتتزامن مثل تلك الإشارات وزيارة رئيس دولة الإمارات للأخيرة. تسجيل كل ذلك الزخم الإيجابي والفاعل لدول الشرق الأوسط في عدة محاور حرجة، من الإفراج عن أسرى حرب لدى روسيا، إلى انخراطها في الإسهام بإمداد أوروبا باحتياجاتها من النفط والغاز، إلى نجاح المواثيق الإبراهيمية في تحفيز إسرائيل على القبول بترسيم حدودها البحرية مع لبنان، قاد لتفاؤل الجميع بأن اتفاقاً مماثلاً بقيادة القاهرة قد يُفضي لرؤية فلسطين منتجة للغاز من مياه غزة قريباً.

ويجب أن لا يغيب عنا ذكر اقتراح الرئيس بوتين استبدال ضخ الغاز عبر تركيا بدل خطي نورد ستريم، ورغم ما قد يمثله ذلك الاقتراح من مناورة سياسية، ألا أنه يدلل على تعاظم حضور دبلوماسية الطاقة وفاعليتها في حلحلة التكلس السياسي. بالتأكيد نحن نشهد عصر قطبية الاقتصاد السياسي وضمور لمكانة الأقطاب وكذلك الاستقطاب السياسي.

* كاتب بحريني