ظهرت الديمقراطية كمنهج حكم من بين مناهج عديدة ومتعددة أثبت كثير منها نجاحه، ولكن الديمقراطية استطاعت ترسيخ نفسها في أوروبا ولاحقا في الولايات المتحدة وباقي دول الغرب لتصبح هي البضاعة الرائجة.
التاريخ عرف الثيوقراطية والأتوقراطية والشمولية وغيرها كثير مر على مسيرة البشرية في تطورها التاريخي ونجاح أي منها أو فشله يعتمد على البيئة الخاصة بالمجتمعات وثقافتها، لكن الأهم قبل كل شيء هو وجود وحضور «الدولة» كمفهوم مؤسساتي وكيان جامع مانع للجميع.
كثير من نخب الكتابة والفكر في عالمنا العربي، سفح على مدى عقود طويلة أطناناً من الحبر مطالباً بالديمقراطية، وهو مطلب جميل، لكنه أيضاً مترف بالمجانية وكما قيل شعبياً: «الحكي ما عليه جمرك».
لكي نطالب بالديمقراطية علينا أولاً أن نكون أصحاب وعي مهيئ لها، أما محاولة استيرادها من خلال تعليبها بمباني برلمانية أو صناديق اقتراع شفافة وحتى المطالبة بأحزاب من أجل قيامها، فليس أكثر من حيلة نحتال فيها على أنفسنا دون سوانا.
لقد كلفت الديمقراطية في مواطنها الغربية المواطن كثيراً من التحولات الدامية والمأساوية حتى وصلت إلى عمق الوعي الجمعي، الذي أطلقها وقام بصياغتها في مؤسسات مدنية حديثة تمارسها.
كيف يمكن أن ندعي الديمقراطية فقط لأن هناك مبنى برلمان مثلاً، ونواباً يمثلون الشعب، بينما الحقيقة أن أغلبهم نجح في الانتخابات على أسس غير ديمقراطية أو من منصات أيديولوجية دينية اختطفت الدين كوسيلة وأداة لتحقيق هدفها باستلام السلطة فقط لا أكثر.
إن ظهور مفهوم النقابات وحده في أوروبا، كان بسبب إرهاصات تاريخية طويلة سبقته، تتعلق بطبقات إقطاعية ثم رأسمالية استحوذت على وسائل الإنتاج، فسخرت العمال لخدمتها بطريقة بشعة، ما استلزم وعلى فترات زمنية طويلة ظهور مفكرين وعلماء في الإدارة وعلم الاجتماع يبحثون في سبل زيادة الإنتاجية، وفي خضم ذلك ظهرت أول مفاهيم الكرامة الإنسانية للعمال، لتتبلور بعد قليل من ذلك إلى أفكار منظمة لحماية الحقوق العمالية التي انتهت بنقابات.
في عالمنا العربي، استوردنا مفهوم النقابة دون أن تكون لدينا طبقات إقطاع مشابهة، ولا وسائل إنتاج حقيقية، فكانت النقابات أجساماً غير مفهومة تحولت إلى أدوار مغايرة لطورها الوظيفي، في الأردن مثلاً، مجمع النقابات صار ميداناً لتيارات المعارضة السياسية، أما أهل الكار من عمال ومنتسبين، فظلوا بلا مؤسسات تدافع عن حقوقهم المهنية.
وكذا الديمقراطية في عالمنا العربي، فالقصة ليست بالمباني ولا حفلات الانتخاب، بل بالوعي الشعبي والاجتماعي لمفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
ومن نوادر التراث الديمقراطي أيضاً أن مرشحاً اعتاد أول تسعينات القرن الماضي أن يبدأ حملاته اليومية بخطاب قصير ليوزع بعدها الكنافة (بنوعيها: ناعمة وخشنة) على الحضور من أهل القرية.
وذات خطاب، استطرد فيه المرشح وطالت مدة حديثه، فقام رجل عجوز بين الحاضرين ليصرخ: يا فلان، اختصر كي لا تبرد الديمقراطية فيتغير طعمها.
باختصار.. زرع شتلة أمازونية في الصحراء لا يحولها إلى أمازون، ستموت الشتلة ببساطة.. ربما من الأفضل أن نروي الصحراء ونخصبها أولاً.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا