تعيش القارة الأوروبية اليوم أسوأ حقبة سياسية واقتصادية واجتماعية. فالحرب بين روسيا وأوكرانيا لم تكن حرباً محدودة بين دولتين، إذ أصبحت الدول الأوروبية والولايات المتحدة طرفاً فيها باصطفافها إلى الجانب الأوكراني منذ البداية ومع العقوبات والحرب الإعلامية امتدت تداعيات الحرب الأوكرانية إلى القارة الأوروبية، ومن ثم امتدت تداعياتها إلى العالم ككل. وقدمت الحرب الأوكرانية الأخيرة أبشع النماذج المخزية في تعرية القيم الغربية الأوروبية والأميركية، فمع بداية الحرب تنكرت الدول الغربية والأوروبية لمبادئ حرية الرأي والتعبير، فرفضت كل الآراء التي لم تتفق معها وسعت لمصادرتها وقمعها، وقامت بإغلاق الوسائل الإعلامية والحسابات والقنوات الإعلامية كافة التي لا تنسجم مع رؤيتها لتلك الحرب، كما حرمت روسيا من تمثيلها في العديد من المحافل الدولية والأممية، لاسيما مجلس حقوق الإنسان، ولم تسلم الرياضة من هذا التمييز الغربي في ممارسة القيم الغربية، فحرمت روسيا من المشاركة في المناسبات والمحافل الرياضية، كما لم تسلم مبادئ التجارة الحرة وحرية الأسواق العالمية من تلك الممارسات الشاذة، فالدعم الحكومي للشركات أصبح ممارسة أوروبية وغربية سائدة، والعقوبات طالت جميع من يعارض تلك الحرب أو يعتبرونها حرباً عبثية، وفي غطرست غربية وأوروبية، رفضت أميركا وبتحالف غربي قيام «أوبك بلس» بالاحتكام إلى آليات السوق وسياسة الاقتصاد الحر، عندما اتخذت قراراتها في تحديد حجم انتهاجها العالمي من النفط للفترة القادمة، رغم كون القرار سيادياً للمنظمة، ومبنياً على معطيات اقتصادية ولوجستية بحتة، والأمثلة كثيرة، وقد تستعصي على الحصر. يتشدق المجتمع الدولي كثيراً بالحديث عن القيم الإنسانية السامية، وبضمانة الأمن والسلام بالعالم، منذ أن قامت الأمم المتحدة بتفعيل هيئات وتشريعاتها الدولية.

ولطالما وضعت تلك الهيئات والتشريعات سيفاً على رقاب الدول والشعوب الضعيفة، وكرست بحراك دولي انتقص من إرادة الشعوب الحرة وسيادة الدول المستقلة، في حين كانت تستخدم تلك الهيئات والتشريعات لتمكين عدد من الدول من تعزيز سيادتها وسيطرتها على القرار الدولي، والذي كان في بعض الحالات يمثل أبشع صور الانتهاكات الإنسانية، ومثلت الأزمات والصراعات والنزاعات المسلحة فرصه لتحقيق أجندات غربية بعيدة عن القيم الإنسانية السامية، كما هو الحال أيام ما سمي بـ«الربيع العربي»، الذي استهدف عدداً من الدول العربية، وأسهم في تعميق المعاناة الإنسانية بشكل مأساوي. وفي اليمن والعراق وسوريا، مثلت تلك القيم السامية الستار الذي استخدمته القوى الغربية لتعميق المعاناة الإنسانية بها، فبين قرارات ومناقشات وسجالات دولية بمجلس الأمن الدولي تارة، وبالجمعية العمومية تارة أخرى، وبمجلس حقوق الإنسان أيضاً، تعمقت معاناة تلك الشعوب وتجذرت آلامها ومآسيها، فالموت الذي طال الجميع لسنوات لم يحفظ لتلك الشعوب حقها في الحياة.

واستمرار الصراع المسلح لم يترك لهم أي فرصة للتمتع بحقوقهم الإنسانية والتنموية. ومن لم تسلبه الحرب حياته وحقوقه وحريته، تكفلت الهجرة بظروفها المخزية بتجريدهم منها، برحلة لجوء تنتهي بهم جثثاً في البحر أو أجساداً بلا حقوق في مخيمات اللجوء غير الإنسانية.

وفي ظل الظروف الدولية الراهنة التي تشكل اختباراً أخلاقياً لقيم ومبادئ الحكومات والشعوب، يتوجب بداية على المنظومة الدولية القيام بدورها الحقيقي في إفشاء الأمن والسلام بالعالم، دون أي تدخل من القوى الدولية الكبرى، وأن تنطلق في عملها من الإيمان الراسخ والضمير الإنساني المتجرد بحق الإنسان الأصيل والأساسي في السلام والأمن والتمتع بحقوقه الإنسانية كافة.

* كاتبة إماراتية