منذ أن باحت صحراؤنا الغالية بكنوزها، وأخرجت لنا مكنونها من النفط، بدأت رحلة الإمارات مع التحول الاقتصادي الكبير، وبعد سنوات عدَّة جاءت لحظة قيام دولة الإمارات العربية المتحدة لتكون الركيزة التي بُنيت عليها رفاهية المجتمع الإماراتي، اعتماداً على المردود الاقتصادي للنفط الذي ظلَّ سنوات طويلة الرافدَ الأهمَّ والرئيسيَّ للاقتصاد الإماراتي.
ومع التحولات التقنية المتسارعة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، والرؤية المستقبلية النافِذة لقيادتنا الرشيدة التي بُنِيت على مبدأ واضح مفادُه أن النفط رصيد قابل للنفاد، جاء السؤال الأهم: ماذا بعد النفط؟
ينطلق هذا السؤال من هاجس مستقبل الأجيال المقبلة بصفته عاملاً رئيسيّاً في سياسات قيادتنا وخططها الاستراتيجية. ومع التطور المعلوماتي الكبير تطورت المفاهيم الاقتصادية، وظهر اقتصاد المعرفة، وبدأ التحول من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد المعلومات، ومن إنتاج المواد والبضائع إلى إنتاج البيانات والمعرفة، وصار إنتاج المعرفة صناعة ضخمة اتكأت على تطور شبكة الإنترنت، والنمو المذهل لتقنيات الاتصالات والتواصل، وأصبحت الصناعات التقنية والمعلوماتية قلب النمو الاقتصادي، وستبقى كذلك في المرحلة المقبلة من تاريخ البشرية.
ولم تكن دولة الإمارات يوماً بعيدة عن هذا التحول في العالم، بل تقدَّمت نحو تنمية الموارد المعرفية والمعلوماتية والتقنية، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي من أجل تعزيز الروافد الاقتصادية، استعداداً لمرحلة ما بعد النفط. ولأن اقتصاد المعرفة يعتمد على رأس المال البشري مورداً رئيسيّاً، كان لا بدَّ من التوقف عند صناعة العقل البشري وأهميته، والنظر نحو التعليم بصفته الصناعة المنتجة للعقول البشرية، ولا بدَّ من أن يمارس دوره بكفاءة من أجل تنمية المورد الرئيسي للاقتصاد الوطني في السنوات المقبلة الذي سيعتمد بصورة رئيسية على المعرفة والذكاء الاصطناعي وإنتاج البيانات.
وقد حرص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في كلمته، التي وجهها إلى المجتمع الإماراتي عقب توليه رئاسة الدولة، على تأكيد التعليم محوراً رئيسيّاً في مسيرة التنمية، فوضع سموه تصوراً استراتيجيّاً لمستقبل التعليم في دولة الإمارات، وإحراز مزيد من التقدم في إدماج التكنولوجيا في المنظومة التعليمية إدماجاً كاملاً، وزيادة التوجه نحو المجالات التقنية والعلمية وعلوم الفضاء، فيستهلّ الإماراتيّون رحلة الخمسين عاماً الثانية، وعيونهم نحو الآفاق الرحبة لاقتصاد المعرفة.
ولكي ينجح التعليم في صناعة العقول القادرة على الاندماج في التسارع التقني والمعلوماتي والمعرفي، لا بدَّ من اعتماد المنظومة التعليمية على صناعة عقل نقدي واعٍ قادر على التفكير الإبداعي، ومتخلٍّ عن التفكير الخُرافي لمصلحة التفكير العلمي القائم على التحليل والتساؤل والبحث عن الإجابات، ومعتمد على منهجية فلسفية تبحث عن الإبداع والتفكير خارج الصندوق. كل ذلك لا يجعلنا نتخلى عن القِيم الإنسانية والأخلاقية، وعن هُويتنا الثقافية بصفتها جزءاً رئيسيّاً ومهمّاً في منظومة التعليم، فلا بدَّ من أن نلتفت جيداً إلى تحقيق التوازن بين البناء العقلي والبناء الإنساني والقِيمي للطالب في المنظومة التعليمية، لأن المنتَج النهائي لتلك المنظومة هو مواطن إماراتي صانع للمعرفة، ومنتج للعلم والتكنولوجيا، ومثال للقِيم الإنسانية والأخلاقية داخل إطار من الهُوية الثقافية الإماراتية الأصيلة.