شهد ميدان الاقتصاد الرقمي العالمي تطوراً كبيراً، ولا سيَّما بعد جائحة «كوفيد-19»، وتمَكَّن بآلياته المعاصِرة من تحقيق قفزات نوعية كبيرة، مقارنةً بالاقتصاد التقليدي المعتمد على النماذج والأنشطة الكلاسيكية. وأصبحت الأسواق الرقمية اليوم أكثر جذباً لملايين المستخدمين حول العالم، وخاصةً في ظل نشوب صراعات ونزاعات دولية وأزمات عالمية جعلت التجارة التقليدية عبر القنوات المعتادة صعبة ومُقيّدة للغاية، وغير قادرة على المنافسة بوجود عراقيل الشحن والنقل والإنتاج، وانخفاض مستوى الطلب وتذبذبه في الأسواق العالمية.
وتؤكد تقارير دولية تنامي الاقتصاد الرقمي بصورة كبيرة في العقد الماضي، وتضاعُف أرقامه على نحو لافت للنظر، في حين يشير تقرير البنك الدولي (2022)، بشأن التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، إلى أن مشروعات «الرقمنة» الوطنيّة في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستُسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة لا تقل عن 46 في المئة على مدى 30 عامًا، أو ما يعادل 1.6 تريليون دولار، وهي آثار اقتصادية مباشرة، أما الآثار غير المباشرة للتطور الرقمي، فيمكن تقديرها بخمسة أضعاف الآثار المباشرة.
وستأتي هذه الزيادة المتوقعة مدفوعةً بمشروعات التحول الرقمي، وإمكانيَّات التقنيات الرقمية المتاحة، التي ستعمل على توسيع سُبُل الوصول إلى الأسواق، وإتاحة فرص اقتصادية جديدة، فضلًا عن تعزيز القدرة الإنتاجية ورفع كفاءتها. وفي رأينا يمكن أن يؤدي ذلك إلى إيجاد أكثر من 50 إلى 100 مليون فرصة عمل للشباب في وقت دقيق تمر به المنطقة، بلغ فيه معدل البطالة بين الشباب ضعف المعدل العالمي.
ويشير تقرير البنك الدولي إلى مفارقة رقمية في دول المنطقة ينبغي الالتفات إليها، فعلى الرغم من الانتشار الواسع للإنترنت بين سكانها -الذي يصل إلى 66 في المئة- فإن التعاملات المالية الرقمية ما زالت منخفضة جدّاً عند مستوى 32 في المئة، مع تفاوت هذه النسبة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ويُبرِز التقرير أهمية تعزيز الثقة المجتمعية بالمؤسسات الحكومية والشركات، إضافةً إلى إعادة تصميم اللوائح والسياسات التنظيمية التي قد تحُول دون تحقيق مشروعات التحول الرقمي مستهدفاتها، وهذا أحد الأسباب العامة والمحتمَلة التي قد تحفّز صعود المعدلات المتدنية لاستخدام التكنولوجيا الرقمية في المعاملات المالية.
وما ينبغي أن ينتبه إليه صانعو السياسات الحكومية في المنطقة العربية هو وضع خطط تنموية واسعة النطاق لجذب مزيد من الاستثمارات في الاقتصاد الرقمي والتحول الرقمي، بهدف «ميكنة» مفاصل الاقتصاد الرئيسية والفرعية، واتخاذ إجراءات إصلاحية لتعزيز الصلابة الاقتصادية، وذلك بوضع تشريعات وقوانين تكون قادرة على تعزيز البيئة الحاضنة والمتناسبة مع متطلبات تطوير الاقتصاد الرقمي والتنمية الرقمية المستدامة، وتستطيع المنافسة في السوق العالمية التي لا ترحم المتخلَّف عن الركب، أو المتباطِئ في التقدم.

الأستاذ الدكتور/ علي الخوري*
*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية،
رئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربي.