يصعب فهم ما يحدث في الشمال السوري مع حالة الفوضى التي يعيش فيها خمسة ملايين سوري في حالة ترقب وانتظار لحل سياسي يهبط من السماء، بعد أن أخفق أهل الأرض في تقديم حل. فمن يسكن في بيت مهدَّم بينهم هو أفضل حالاً ممن يسكنون في المخيمات، وما يزال أطفالهم في السنة الحادية عشرة من مأساتهم يعيشون في الوحل، ويعانون البرد، وغالباً ما تعبث الرياح بخيامهم وتقتلعها في الشتاء، بعد أن يكوي أجسادهم حر الصيف.. وهم بلا مدارس، وبلا رعاية طبية، وأمامهم مستقبل مظلم قاتم. وقد انتشرت في الشمال الأمراض، ولا توجد عناية صحية، كما غاب الأمان، وازداد العنف وتكاثرت الجرائم وعمليات الاغتيال لتصفية الخلافات البينية. والمؤلم أن بعض مَن كانوا «ثواراً» صاروا تجاراً. وفي الأيام القريبة الماضية أوشكت حرب داخلية أن تشتعل بين فصائل الشمال وبين «هيئة تحرير الشام» التي رغبت في التوسع باتجاه مناطق نبع السلام التي تقع في دائرة الحماية التركية، ووقع جراء الاقتتال نحو ستين قتيلاً بينهم عشرة من المدنيين. وكان للشعب دور في إيقاف المجازر المتوقعة، حيث فرض السكانُ إرادتَهم عبر موقف حازم، فضلاً عن تدخل أميركي عبر تركيا، فتوقف إطلاق النار، وعادت «هيئة تحرير الشام» إلى قواعدها في إدلب، لكن ضغائن النفوس واحتمال العودة إلى سفك الدماء متوقع ما لم تتدخل قوى دولية كبرى ودول عربية قيادية لإيجاد حلول ممكنة يقبل بها الجميع أو يذعنون لها. والمفارقة أن غالبية سكان محافظة إدلب الخاضعين لتنظيم «الهيئة» يتهمونها بالولاء للحكومة السورية ولـ«القاعدة» التي سبق أن انفصل عنها (إعلامياً)، لأنها لم تقاتل القوات الحكومية، وإنما تفرغت لمحاربة «الجيش الحر» وتصفيته، وأهم إنجازاتها بناء المعتقلات والسجون التي زجت فيها بخصومها. وقبل أيام قامت بإغلاق المدارس والثانويات الكبرى لأسباب مالية كما قالت، وأحسب أن تكاليف الحملة على عفرين وأعزاز وما حولهما تكفي كنفقات لكل مدارس المحافظة.
ويتساءل الشعب السوري المنهك: مَن يا تُرى يدعم هذه «الهيئة» المصنفة إرهابيةً؟ ومَن يوفر لها الحماية ويضمن لها الاستمرار؟ والمثير أن يخضع السوريون في الشمال لثلاثة قوى رمزية محلية، تبدأ بـ«قسد» في الشمال الشرقي وحوض الفرات، تليها إلى الغرب مناطق «الجيش الوطني» التابع لتركيا، ثم مناطق «هيئة تحرير الشام» («النصرة» سابقاً). وأقول إنها قوى رمزية لأنها لا تملك السيادة ولا تملك الاعتراف الدولي، وليس لها من القوة الفعلية ما يجعلها تصمد وتبقى مسيطرةً دون دعم خارجي. والقوتان الكبيرتان نسبياً لا تخفيان ولاءهما للخارج، فـ«قسد» وامتداداتها تلقى دعماً أميركياً معلناً، وكذلك المناطق التي احتوتها تركيا عبر عمليات سميت «درع الفرات» و«نبع السلام» و«غصن الزيتون» فهي تابعة لأنقرة التي أعلنت رغبتَها في إيجاد منطقة آمنة لعودة اللاجئين. والمنطقة الثالثة هي منطقة «هيئة تحرير الشام» في إدلب التي تخفي حقيقةَ داعميها. ولو أن هذه المناطق الثلاثة تلتئم تحت مظلة الدولة السورية، وتنتهي فيها هذه الصراعات المدمرة للجميع، لكان ممكناً أن يحدث استقرار نسبي وإعادة بناء وإعمار في الشمال، وعودة آمنة للاجئين ريثما يتمخض مجلس الأمن والمجتمع الدولي عن حل سياسي طال انتظاره، حفاظاً على وحدة سوريا، ولإنقاذها من خطر التقسيم.


*وزير الثقافة السوري السابق