«التخوين» و«الاتهامات» و«الشتائم» هي مفردات قاسية أفنى «حزب الله اللبناني» في استخدامها بكثافة أربعة عقودٍ من الزمن، ضد الدول العربية جميعاً وشاركه في ذلك جماعات الإسلام السياسي مجتمعةً كـ«جماعة الإخوان» وتنظيمات النضال الفلسطيني من «حركة حماس» الإخوانية إلى المنظمات اليسارية والقومية التي آلت قيادتها إلى درك من الفساد والبجاحة غير مسبوقٍ.

المفارقة التي ينبغي على وسائل الإعلام إبرازها وتناولها والتركيز عليها هي أن هذه المفردات تحديداً هي التي تقلق «حزب الله» اللبناني وأمينه العام، حيث خرج قبل يومين في خطابه لمن قد يبدون اعتراضاً على «اتفاقية» لبنان و«حزب الله» مع «دولة إسرائيل» لابساً مسوح الضأن خلاف عادته وطالبهم بلغة هادئة، قائلاً: «واصلوا نضالكم من دون تخوين وبدون اتهامات وبدون شتائم».

في اللحظات التاريخية الكاشفة يجب رفع مستوى الصراحة وتسمية الأشياء بمسمياتها لنشر الوعي لدى الرأي العام وإيصال الرسائل المهمة والمحددة لغير المتخصصين من عامة الناس، لأنها تكشف أمام الملأ ما كان يكتبه الباحثون والمحللون ويحذرون منه ويتنبؤون به لسنواتٍ ويمكن مشاهدته اليوم بالصوت والصورة في كل مكانٍ، و«حزب الله» اللبناني و«حركة حماس» الإخوانية التي هنأته بالاتفاق مع دولة إسرائيل في قلب هذه اللحظة التاريخية. السؤال المهم هنا هو أين من تهجموا على الدول العربية التي اختارت السلام مما يجري اليوم؟ أين من كتبوا وتحدثوا وهاجموا دولاً مثل مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب عن هذه الاتفاقية بين لبنان وإسرائيل؟ أين أولئك الخصوم الفجرة -بحسب التعبير النبوي الكريم-مما فعله «حزب الله»؟ أين جماعاتهم ومنظماتهم؟ أين رموزهم وتصريحاتهم؟ أين بياناتهم وقصائدهم؟ أين فتاواهم وخطبهم الرنانة؟ أين فضائياتهم وصحفهم ومواقعهم الإلكترونية؟ أين شجبهم واستنكارهم؟ لقد صمتوا صمت القبور.

كان الصحويون في السعودية والخليج يهاجمون أي سلامٍ مع إسرائيل، ويصدرون الفتاوى والبيانات ويكفرون الدول العربية وقياداتها ويملأون الدنيا ضجيجاً وتكفيراً، فلما أرسل الرئيس «الإخواني» لمصر تهنئة لرئيس إسرائيل صمتوا صمت القبور، وبرر بعضهم له تصرفاته وقرارات «جماعة الإخوان» في الحكم، وكأن «دين الله» و«الإسلام» ملكٌ للجماعة توزع الإيمان والكفر على الناس دولاً وجماعاتٍ وشعوباً بحسب مصالحها فقط. «قعدة الصحوة» مثل سابقيهم «قعدة الخوارج» صمتوا عن هذه الاتفاقية، فالصحويون حائرون، فلا أحد يقدم لهم مخرجاً يدافعون به عن «حزب الله» وحركة «حماس». فقياداتهم التي تبرر لهم الفظائع والفضائح باتت تحت الضغط الشعبي قبل الرسمي ولم تعد تستطيع التنظير للانحرافات الدينية والسياسية الفاقعة كما كانوا يفعلون من قبل، فهم يمارسون «الصمت المطبق» عن وعيٍ.

لقد كانوا يفعلون ذلك من قبل، ولهذا مثالان صارخان: الأول، التبريرات التي ساقها السروري سفر الحوالي لتعاون «تنظيم القاعدة» مع دولة إقليمية تناقضه طائفياً في كتابه «المسلمون والحضارة الغربية» وناقض فيه كل طروحاته السابقة عن «العقيدة» و«الحاكمية» و«الطائفية»، كما خرج أمثاله من السعودية ودول الخليج وقدموا تبريراتٍ دينية وعقدية وسياسيةٍ لتركيا و«جماعة الإخوان» في سياساتٍ وقراراتٍ كفّروا بعض الدول العربية حين قامت بنفس السياسات واتخذت نفس القرارات، ورصد لحظات التناقض الكبرى مهمٌ جداً لتشكيل الوعي وتراكمه، والعهد قريب والأدبيات متوافرة. أخيراً، فـ«التخوين» في السياسة مثل «التكفير» في الدين، ولذلك كانت جماعات الإسلام السياسي بشقيها السُني والشيعي تستخدم هذين الأمرين معاً لعقودٍ من الزمن لتصفية حساباتها مع أنظمة الحكم وفرقاء السياسة، وبنت عليها «تنظيماتٍ عنفيّةٍ» مثل «القاعدة» و«داعش» وبررت بهما عمليات «الاغتيال» و«القتل» و«التفجير» في حوادث ملأت الدول العربية من شرقها لغربها، وقد جاء اليوم الذي يفترض أن تشرب فيه من نفس الكأس من الشعوب التي تمتلك الوعي والقدرة على المقارنة.

* كاتب سعودي