لا أتذكر مرة واحدة قبل عشرة أعوام وأنا أزور باريس إلا وتكون هناك تحركات في الشارع أو بالأحرى احتجاجات. كنت أشعر بالإرهاق على الأخص أن الطائرة من الخليج إلى مطار شارل ديجول تصل صباحاً، وهذا الوقت هو المسموح للشعب للتظاهر. 

مظاهرات الفرنسيين لا تنتهي، مرة ضد غلاء المعيشة ورفع الأسعار، ومرة ضد المطالبة بخروج فرنسا من حلف «الناتو»، وهناك احتجاجات لطيفة وتستغرب القيام بها، ضد أكلة اللحوم من قبل النباتيين، ومرة المطالبة بزيادة رواتب عمال المطافئ، حكايات كثيرة وراء هذه المظاهرات، التي كنت لا أرى فيها نفعاً من وجهة نظري.

شاهدت عدداً من الاحتجاجات، لكني لم أتبع النتيجة النهائية، المهم أن يقوم الفرنسي بالتعبير عن نفسه حتى لو كان متأكداً أنه لن يغير شيئاً.
العامل الخمسيني اللبناني الذي يعمل في مطعم عربي، يتحدث بعصبية كبيرة، يخبرني أن المواطنين في فرنسا مرفهون جداً، يخبرني الكثير من القصص الجميلة عن فرنسا وعن حكومتها. وكم هو معتد بالجنسية التي حصل عليها قبل أعوام عدة. إنه فخور أكثر من الفرنسيين أنفسهم، وكم كان حزيناً في تلك الأيام التي اشتعلت فيها فرنسا جراء سلوك المتظاهرين، وسميت لاحقاً بمظاهرات «السترات الصفراء».
كان العم مازن حزيناً ولا يريد أن يتكرر ما حدث، ففرنسا تستحق الكثير من الامتنان لما تقدمه الحكومة للشعب والوافدين لتحفيزهم على العمل.

أعجبني ما قاله العم مازن، أنه يجب المحافظة على بلد عظيم مثل فرنسا، لقد كان يستذكر أموراً عديدة، كيف أنه حصل على الجنسية في ظل حكومة رفيق الحريري، وأنه فتح ذات يوم بريده ليجد ظرفاً ويكتشف أنه جواز السفر الفرنسي الذي كان ينتظره من خمسة أعوام، «كل هذا وتريديني أن أؤيد المظاهرات التي تقام في فرنسا يستحيل ذلك!»، هذا ما قاله أبو علي السيد مازن، وقد كنت أخبره ضاحكة أنني من عشرة أعوام لم تحط الطائرة في شارل ديغول إلا والجميع ينبهنا أن هناك احتجاجات وعلينا الحذر من ذلك.

تُرى كم مازن في فرنسا يحمل هذا الكم من المشاعر الطيبة، تجاه وطن ضمه إليه واستطاع أن يعطيه كل ما يبتغيه، من تعليم أطفاله نهاية بعلاجهم وسهولة طلب القرض لشراء شقة صغيرة. 

الغريب أن الكثير ممن يشتكون ممن يرون أنه «عنصرية» لدى الفرنسيين، وهذا أمر يراه البعض واقعاً، فأغلبنا لاحظ كيف تتم معاملتنا ونحن في عقر دارهم، وكيف أن سياحتنا هي جزء مهم لخزينة الدولة الفرنسية، رغم ذلك فالكثيرون لا يهتمون إنْ كنت سبباً في ارتفاع مداخيل اقتصادهم أو سبباً في تراجع الغلاء.
* كاتبة وروائية سعودية