في حديث فلسفي مهم يقول الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود: إن الحضارة المعاصرة هي حضارة أوروبية. لهذا فإن الكاتب الأوروبي لا يشعر إزاء حضارته بأنه أمام جسمٍ غريبٍ أقحمَ نفسه عليه، ثم يتساءل.. كيف أتقبّله؟.. أو كيف أرفضه؟ بالنسبة لنا في العالم العربي الموقف مختلف: نحن أمام حضارة ليست من صنعنا، وفي الوقت نفسه هي حضارة لابدَّ من اتخاذ قرار بالنسبة لها.

إن مشكلة «قبولنا» أو «رفضنا» أو «تعديلنا» للحضارة الغربية.. هي أكبر المشكلات الفكرية التي تواجهنا. يواصل الفيلسوف: كان التحدّي الأكبر في العصور الوسطى هو كيف نوّفق بين العقيدة الدينية والفكر الفلسفي.. لأنَّهُ لا يجب رفض أحدهما لأجل الآخر. كيف نُبقي عليهما دون تعارض؟ كان هذا هو التحدي.

لم يعد التحدي الآن هو التوفيق بين الدين والفلسفة - كما كان في عهد أجدادنا - بل التوفيق بين الدين والعلم. في حديثه آخر له مع الأستاذ محمد رضا نصر الله في التليفزيون السعودي قال الدكتور زكي نجيب محمود: إن الأوروبي لا يسأل نفسه: ماذا أفعل بشأن ثنائية التراث والعصر. ذلك لأنَّهُ - ببساطة - صاحب العصر، ولا حيرة لديه بشأنه. هناك شعوب ليست صانعةً للحضارة المعاصرة، ولكنها أيضًا لا تتساءل لأنها ليست مثقلة بحضارة سابقة، لتختار بينهما. هنا يمكن القول إن الهند والصين يشبهوننا، فلديهم حضارات قديمة، وقد واجهتْ الحضارتان السؤال نفسه.

إذا أخذنا بالأسس العريضة، فلا يوجد تعارض بين حضارتنا وحضارتهم. لكن بعض الأشياء غير الجوهرية هي التي تحدِث الفارق، وهذه الأشياء هي مجال الاجتهاد. التليفزيون مثلاً هو أداة معاصرة، والمضمون يمكن أن يكون فكراً عربياً إسلامياً.. وهنا لقاء الطرفيْن. فالمادة الفكرية الموضوعة ليست ميكانيكية، لكنّنا وضعناها في جهاز ميكانيكي.

مثال آخر الأستاذ توفيق الحكيم.. لقد أخذ القالب المسرحي من العصر الحديث، فهو ليس من تراثنا. ثم إنه ملأه بمضمون عربي إسلامي، ليصبح أمامي «كائن أدبي جديد».. لا شبيه له في الغرب من حيث المضمون، ولا شبيه له في حضارتنا من حيث الشكل.

مثال ثالث: الدكتور طه حسين.. إن أهميته ليست في كتبه فقط، بل كانت بالأساس في المزج في شخصيته بين «الأزهري» و«العصري».. ليصبح الاثنان شخصاً واحداً في كيان عضوي واحد. ثم لنأخذ مثالاً رابعاً من الماضي، فالجاحظ وهو - في رأيي- الكاتب العربي الأول، قد قام بتضمين الفلسفة اليونانية في فكره. كانت الحضارة العربية الإسلامية تنقل بلا خوف، وبلا قلق. كانت كلها ثقة في نفسها.

ربما يحتاج العقل العربي إلى المصلحين الذين أشار إليهما الفيلسوف المصري: الصلح بين الدين والفلسفة وبين الدين والعلم. وبقدر الصلح الثلاثي يكون العقل العربي، ومن ثم المستقبل العربي، إما عصر جديد عظيم.. أو عصور وسطى جديدة.

* كاتب مصري