كثيراً ما قرأنا وتحدثنا في أحاديث عامة حول سلبيات منصات البث الرقمي، مثل نتفليكس وبرايم أمازون وديزني وغيرها من منصات ما تزال تتوالد، مع الإشارة بالإعجاب لمنصة «شاهد» العربية. على أن تلك المنصات الغربية تحديداً تفرض ذائقتَها التي تعتمد منهجية النيوليبراليين وتيارات الصوابية السياسية والاجتماعية، وقد بالغت في ذلك لتفرض ما تريده في كل إنتاجاتها بغية تشكيل حالة تقبّل تام لما قد يرفضه كثير من الناس. وأنا من هؤلاء الكثرة الذين يرفضون ذلك. وغالباً ما كانت تلك التهم موجهةً لشبكة نتفليكس تحديداً، وعلى نحو أقل انتقاداً لمنصة برايم التابعة لشركة أمازون. وشخصياً أرتاح كثيراً لمنصة ديزني بلس لأن في مكتبتها ثروة كبيرة من الأعمال القديمة التي يمكن تأطيرها بمرحلة ما قبل عصر الثورة الإنترنتية.
لكن، من جهة أخرى، وأنا متابع شغوف للسينما، وبمساعدة معرفية من قراءات لأصدقاء متخصصين في السينما العالمية كنت محظوظاً بوجودهم معي في قبيلة الفيسبوك الكبيرة، بدأتُ بمتابعة أفلام سينمائية غير التي تقدمها السينما الأميركية التي شبعنا من بطولاتها وأبطالها، بدءاً من أفلام الغرب التي بمجملها تبدأ وتنتهي ببطل حصانه لا يتعب ورصاص مسدسه لا ينفذ، وليس انتهاءً بأفلام الخيال العلمي الذي تجاوز المنطق العلمي بمراحل، مروراً بأفلام الإثارة النفسية المريضة لقصص جرائم وعنف دموي تجعل النوم عبئاً على أعباء اليوم المثقل بالضغوط.
أتحدث هنا عن أفلام من كل الجنسيات العالمية، قديمها وجديدها، تلك التي تقدمها المنصة بترجمة محترفة، فتفهم ما يدور من حوار وتستمتع بمعرفة ثقافات وشعوب جديدة تكتشف أنك لم تكن تعرف عنها تلك التفاصيل الجميلة.
في الفترة الماضية كان لي وقت كثير خارج العمل لأبقى في المنزل مستمتعاً بتلك الأفلام، من بولندا ورومانيا وإسبانيا بل ومن إيران، حيث نكتشف أن هناك جذوة حياة نابضة. وكانت البداية عندي من خلال قراءات سينمائية يقدمها نقاد عرب على صفحات الفيسبوك، لأبدأ بأول فيلم فتلتقط خوارزميات المنصة اختياراتي وتحاول تقديم ما يشبه تلك الاختيارات كأفلام مقترحة. وفيلماً بعد فيلم، أجدني أفتح نافذةً لنفسي على مجتمعات وشعوب وثقافات وأنماط حياة خارج منظومة هوليود المعتادة وبعيداً عن متلازمة المجرم الشرير والشرطي البطل.
هناك رؤية عميقة وواقعية حتى في الخيال الفانتازي الذي يغلّف تلك الأفلام، هناك بشر يحملون الخير والشر في ذات الوقت، وهناك قصص تشبه ما نسمعه في الحياة، لكن من خلال ترجمة بصرية فائقة الجمال للتفاصيل في حياة الشخصيات ومحيطها.
نعم، هناك ما لا يتماشى مع ذائقتي في كثير من إنتاج نتفليكس، لكني أكتشف أنه يمكنني أن أوجّه المنصةَ عبر خوارزمياتها إلى ما أريد مشاهدتَه، وفي حال لم أكمل فيلماً لأنه لم يعجبني. ولأكثر من مرة تدرك تلك الخوارزمية بتقنية الذكاء الاصطناعي ما أريده وما لا أريده، فأنتهي إلى خيارات مقترحة قريبة جداً مما أرغب بمشاهدته.
الذكاء الاصطناعي الذي نخاف منه، وهو يحيط بنا في كل تفاصيل حياتنا قد لا يكون مخيفاً إلى هذا الحد لو تكفّلنا نحن بفرض ما نريده. وفي المحصلة، إما أن نقرر كمستهلكين نوعَ السلعة التي نريدها، أو ننتهي نحن كسلعة بحد ذاتنا.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا