معظم التحليلات التي أريق فيها الكثير من الحبر، قبل ومنذ بداية انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأميركي، جانبها الصواب. والمعلقون الذين كان لديهم آمال غير واقعية فيما يتعلق بالنتيجة أصبحوا يشعرون الآن بالصدمة (أو بالرعب أو البهجة، اعتماداً على قناعاتهم السياسية) بعد أن تبين لهم أن توقعاتهم قاصرة.

وعلى سبيل المثال، يفسر الذين توقعوا صعود «موجة حمراء كبيرة» سبب عدم صعودها. وبعض الذين يشعرون بارتياح، ولم يرضهم قط أن يكونوا مخطئين، يؤكدون، مخطئين، أن نتيجة الانتخابات المتقاربة تعني أن استقطاب الناخبين آخذ في التلاشي. إنهم مخطئون.

لم تكن هناك «موجة كبيرة» قط، وما زلنا منقسمين بعمق كما كنا في السابق. وكما كتبت قبل أسابيع قليلة، فإن هذه الانتخابات ستحبس أنفاسنا على قلق، والفجوة بين الحزبين في الكونجرس ضيقة وتقاس بالسنتيمتر وليس المتر. وإليكم السبب. فقد شعر الجمهوريون بالاطمئنان إلى حصولهم على بضع من مقاعد إضافية، لأن إعادة تقسيم الدوائر الذي يتم كل عشر سنوات جاء في صالحهم. واستياء الجمهور بشأن التضخم ومعدلات التأييد المنخفضة للرئيس بايدن أعطت الجمهوريين ميزة إضافية في الفوز بمزيد من المقاعد.

لكن مع وجود 90% من المقاعد يغلب عليها بشدة الطابع «الديمقراطي» أو «الجمهوري»، كانت هناك حدود لعدد المقاعد الذي يستطيع أي من الطرفين إضافتها. ومع سيطرة «الديمقراطيين» بأغلبية طفيفة من ثمانية مقاعد في مجلس النواب، كان من المعقول افتراض أن «الجمهوريين» قد يسيطرون على الكونجرس، لكن من غير المعقول افتراض فوز ساحق.

وحتى الآن، في مجلس النواب الذي يبلغ إجمالي مقاعده 435 مقعداً، ما زال هناك 21 مقعداً على الأقل متقاربة النتائج بحيث يتعذر الحسم فيها، وشبكات الأنباء تتوقع حصول «الجمهوريين» على ما تتراوح بين 214 إلى 221 مقعداً، تنقص أو تزيد مع الفرز النهائي للأصوات. ولا يختلف الوضع في مجلس الشيوخ، مع احتمال استمرار الانقسام الحزبي الحالي بين 50 مقعداً لكل حزب.  والمحللون مخطئون أيضاً في تقديرهم أن قوة دونالد ترامب تتلاشى.

فقبل يوم الانتخابات، أخطأ المحللون في وضع السباق في إطار منافسة على المستوى القومي لشعبية الرئيس بايدن والرئيس السابق ترامب. صحيح أن ترامب دعم بعض مرشحيه المفضلين، لكن انتخابات التجديد النصفي محلية الطابع غالباً. وبعض الموالين لترامب خسروا أمام «ديمقراطيين» أكثر شعبية، لكن النتيجة بعيدة كل البعد عن كونها استفتاء نهائياً على الرئيس السابق.

وعشية الانتخابات، صور هوس إعلامي افتراضي ترامب على أنه فاشل كبير ينحدر بحزبه لأسفل، مع ظهور تقارير عن «جمهوريين» آخرين شجعوا على تحدي الزعيم الجريح في عام 2024. وبالنسبة للبعض في وسائل الإعلام، فالأمر منته، فقد خرج ترامب من الحلبة، وحلت محله «نكهة الشهر» الجديدة. لكن يجب توخي الحذر.

فعلينا أن نتذكر عدد المرات التي تم الإعلان فيها عن انتهاء تجربة ترامب بين عامي 2015 و2016، فمع كل فضيحة جديدة أو أداء محرج في المناظرات، كانت الصحافة تعلن موت ترشيحه. واستمرت الشائعات حتى وقت متأخر من المؤتمر «الجمهوري» بأن قيادة الحزب ستحاول إنهاء ترشيحه. لكن على الرغم من عيوبه الكثيرة، ما زالت سيطرة ترامب على قطاع كبير من الحزب «الجمهوري» قوية.

وإذا قرر ترامب الترشح مرة أخرى، فإن مؤسسة الحزب ستشعر بالضيق والقلق والغضب في كتمان، لكنها ستتجنب إقصاء قاعدة مؤيدي ترامب المتحمسة له. وهزيمة بعض الموالين لترامب والنتائج النهائية المتقاربة بين الحزبين لا تعني أن الأميركيين يتقاربون فيما بينهم.

والواقع، كما توضح استطلاعات الرأي، أن البلاد ما زالت مستقطبة بشدة كما كانت من قبل، فهي منقسمة بالتساوي بين معسكرين متحاربين. وهذه الانتخابات لم تيسر فقط حدة الاستقطاب، بل أسرعت بايقاعه.

وأنفق كلا الحزبين ومجموعات المصالح ذات الصلة مبالغ غير مسبوقة قُدرت بنحو 10 مليارات دولار على إعلانات التلفزيون والإعلان الرقمي خلال هذه الحملة. وغابت الرسائل الإيجابية لتضميد الجراح والدعوة إلى الوحدة بين المواطنين، وشنت الإعلانات هجمات وتوقعت حدوث احتمالات كارثية إذا فاز الطرف الآخر. وهذا التلوث المستمر للخطاب السياسي مدمر. وعلى سبيل المثال، ما زال 60% من «الجمهوريين» يعتقدون أن بايدن لم يفز بالفعل في الانتخابات، وتم رصد 9625 تهديدا ضد أعضاء الكونجرس حتى الآن هذا العام. ودون معرفة النتيجة النهائية لهذه الانتخابات، من الصعب تقديم توقعات للمستقبل.

وإذا سيطر «الجمهوريون» على مجلس النواب، فلن يتمكنوا من كبح جماح أنفسهم. ومن المحتمل إجراء تحقيقات مع الرئيس وعائلته، وربما حتى التحرك نحو مساءلة الرئيس ونحو الإغلاق الحكومي نتيجة رفض إقرار الميزانية. وكل هذا لن يؤدي إلا إلى تعميق الاستقطاب، مما يجعل السنتين القادمتين صعبتين واستقطابتين.

رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن