لا يقتصر سوء استخدام الإنترنت على تحويل الشعوب إلى أكثرية استهلاكية مستدينة، وتقسيم العالم لمجتمعات افتراضية تعيد ممارسات الكراهية والانفصالية والتعصب إلى الساحة بثوب جديد، وشن حروب دعائية وتزوير وتشويه الحقائق، بل وصناعة عالم من الحقائق الوهمية المبنية على الشائعات في الواقع الافتراضي الذي يجعل تفكير الفرد نسخة من تفكير البيئة الافتراضية التي ينتمي إليها. 

وهناك بعض الدول التي تجيز قوانين لاستخدام حسابات بديلة وهمية، وتقوم بتعديل سياسات بعض المؤسسات فيها وعقائدها إن كانت تعارض نشر المعلومات الكاذبة، وبما أن الخصوم يعملون بشكل مطلق في مجال المعلومات وفق توجه أنه ينبغي فعل أي شيء في الخفاء في تلك المساحة لتحقيق مصالح دولهم، وهو ما يطبّق في العمليات الإعلامية للجيوش والمؤسسات الاستخباراتية والأمنية، دون وجود ضمانات أخلاقية تذكر في تلك العمليات.
وبمجرد دمج الإنترنت بالكامل في العمليات ستكون أداةً حاسمةً في أيدي القائد العسكري أو الاستخباراتي الذي يسعى إلى شن عملية خداع فعّالة، وهو ما يسمح للآلات بتضليل البشر، حيث ربطت بعض الدول تقريباً كل ما يتعلق باقتصادها وأمنها القومي بشبكات الكمبيوتر ثم فشلت في الدفاع عن هذه الشبكات بشكل كافٍ، وبدأت الدول في تنفيذ العمليات النفسية الرئيسية على الإنترنت ضد الحلفاء والخصوم على حد سواء وفق ما تقتضيه مصالحهم الوطنية منذ عام 2010، والسعي الجاد لإحداث تغيير في نظام الدول المنافسة وتحريك الشارع على الحكومات، وتخويف المستثمرين من الاستثمار في مناطق ومجالات معينة، والتسلسل والقرصنة الإلكترونية للبنية التحتية لتلك الدول، وسرقة المعلومات والتخريب الإلكتروني لأبرز القطاعات فيها، وتزويدها بالبيانات الزائفة والوصول للبيانات السرية لديها، وتعطيل نظم الدفاع المختلفة لديها، والسماح للمعتدين عليها بتحقيق أهدافهم، ولتلقينهم دروساً أو الضغط عليهم لتحريك ملفات شائكة بين الطرفين. 
وتشهد الهجمات الإلكترونية اليوم استخدام التمويه الإلكتروني لتجنّب حماية الهدف وأنظمة المراقبة، وإخفاء توقيع البرنامج الضار عن طريق تغيير شكله باستخدام أكواد القشرة متعددة الأشكال، والقيام باستخراج المعلومات التي تم جمعها بوساطة التهديد المستمر المتقدم (APT) عن طريق إخفائه في حركة مرور الشبكة العادية.
ولا يتطلّع القراصنة إلى خداع الآلة فقط، بل خداع الإنسان هو الأكثر فعاليةً، لأن البشر غالباً ما يكونون الحلقة الأضعف في النظام من خلال ما يسمى بالهندسة الاجتماعية لإحداث التأثير، والإقناع لخداع الناس وتوجيههم نحو سلوك معين، ومعرفة أنماط التفكير والممارسات السلوكية والمهنية لديهم وما هي خياراتهم المفضلة في شتى المجالات، ولذلك فالمتسللون هم بطبيعتهم أفراد يفكرون في أفعالهم من خلال الخداع، ويحققون أهدافهم من خلال جعل نظام تقني أو بشري يتصرف بطريقة لا يتوقعها مصممه أو نية مالكه، وتستخدم الدول كل الموارد المتاحة لها والمواهب، بل والخارجين عن القانون في هذا المجال بغض النظر عن الشرعية والتشريعات.
ويساهم الإنترنت في مساعدة الأفراد والجهات والدول في إخفاء وتشويش المعلومات الحيوية في بحر من البيانات غير المفيدة لتقليل قدرة الخصم على استغلال المعلومات. 

وفي الجانب العسكري تتم تلك العمليات إلى جانب مهاجمة أجهزة الاستشعار وغزو الشبكات والسيطرة على نظام الدفاع الجوي، مما يمنع اكتشاف الطائرات الصديقة أو اكتشاف الهجمات المنفذّة ضدها، حيث تتمكن بعض الفيروسات من تحليل شبكة الاتصال للدول المستهدفة واختراقها، ومن ثم استغلال ثغرات الكمبيوتر لمعرفة نفس المعلومات التي كانت تلك الدول تبحث عنها، وإدخال معلومات خاطئة خاصة بالمعتدي، والكثير من الأفخاخ والألغام الرقمية كأدوات قوية للخداع النشط، واختراق عمليات تبادل البيانات وتمرير المعلومات المضللة وهو ما يسمى بالتسمم، وهو هجوم فكري له تأثير خداع الخصم بشأن النوايا والاحتمالات الودية من خلال إعطائهم معلومات خاطئة أو مضللة، والعمليات النفسية (psyops) هي إحدى أدواتها الرئيسية، وكذلك استغلال تقنية التزييف العميق بمساعدة الذكاء الاصطناعي (AI)، وعالم التزييف العميق من منظور العمليات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية.
* كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات