بعيداً عن مشاعر الحماسة لدى أي من أطراف الصراع في سوريا، وتمسك كل طرف بسرديته، يشترك كل السوريين في التداعيات المأسوية للانفجار الضخم عام 2011، وسيبقى كل طرف يُحمّل الآخرين مسؤوليةَ ما حدث، ويصعب أن يصل المتصارعون إلى توحيد الرؤية في تشخيص أسباب ودوافع الانفجار، وعادة ما يكتب التاريخَ الطرفُ المنتصرُ، فيجعل سرديته هي الأقوى. لكن التاريخ لم يعد كتابةً على ورق في عصر التقنية الإعلامية المتطورة صوتاً وصورة، مما سيتيح لكل رواية أن تقدم أدلتَها. لكن الخطر هو أن يبقى الصراع مستمراً في النفوس تتوارثه الأجيال، وأن يظل قابلاً للانفجار ولو بعد أزمان، ونحن نرى كيف استيقظت أوهامُ التاريخ وفواجعه لتصير حاضراً ينعكس على الصراعات الراهنة.
والمشترك الواضح بين السوريين اليوم، على اختلاف مواقفهم ورؤاهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، هو أن أغلبهم يعيشون حالة من الضياع واليأس، والفقر والشعور القاسي بالخواء، وهم يرون بلدَهم يعيش انهياراً اقتصادياً مريعاً، ونصف شعبه مشرداً في أصقاع الأرض، وبات من المفارقات أن يسعى مَن بقوا في الداخل السوري إلى الهجرة هرباً من الظروف القاسية والعيش دون متطلبات الحياة البسيطة، مثل الخبز والوقود، مع ظاهرة الغلاء الفاحش، وانهيار العملة الوطنية، فضلاً عن الحاجة إلى الشعور بالأمان.. وفي الوقت ذاته، يشعر المهاجرون واللاجئون في المنافي وفي بعض بلاد الاغتراب، بأنهم مضطهدون، تلاحقهم نظرات العنصرية وحالات التنمر الاجتماعي والضيق بحضورهم والدعوات لإجلائهم، مع إحساس بأنهم منبوذون.. ولا أعمم هذه الحالة على جميع بلدان الشتات السوري، فثمة بلدان شقيقة وصديقة رحبت بالسوريين وأكرمت وفادتهم، وكثير من السوريين حققوا نجاحات ملفتة لقيت تكريماً وحفاوة بالغين. لكن أكثر السوريين يحلمون بالعودة إلى وطنهم وأرضهم وأهلهم وبيوتهم، ويؤلمهم أن أبناءهم ومن هاجروا مع أهلهم وهم أطفال صغار لا يعرفون سوريا ولا يملكون في ذاكرتهم أية صورة عنها، ومن هم أكبر سناً بقليل قد لا يتذكرون سوى الدماء التي أغرقت بلدَهم.
والسوريون جميعاً ينتظرون حلاً، من الأرض أو من السماء، وقد طال الانتظار ولا ضوء يظهر في آخر النفق المظلم، وقد سيطرت حالة من الوجوم والجمود، دون أي حراك سياسي يبعث الأمل في الانفراج، وقد اتسع الخرق على الراقع، ولم تعد هناك إمكانية لمواجهة المتطلبات الضرورية للشعب السوري في الداخل، ولن تتمكن الدول الداعمة والمساعدات المقدمة من روسيا وإيران من سد الاحتياجات. وأعتقد أن إزالة الأنقاض والردم تحتاج إلى مليارات، فضلاً عن تكاليف إعادة ترميم البنى التحتية. كما أن معالجة قضايا الرواتب والأجور بالقياس للأسعار، تبدو مستعصية ولا توجد موارد كافية لزيادة متكافئة. وقد تحمَّل اللاجئون والنازحون مسؤولية إعالة أهلهم وأسرهم الباقية في الداخل. وتشير التقارير الاقتصادية إلى أن 40% من السكان يتلقون مساعدات عبر التحويلات التي تصلهم من أقربائهم في الخارج.
وهكذا يتشارك السوريون جميعاً في الفواجع والمآسي، ويبقون «في انتظار غودو» الذي قد لا يأتي! وقد أصبحت القضية السورية هامشيةً لدى الكثير من الدول التي كانت تهتم بها في السابق، كما أن قوى المعارضة باتت منهكة ومشتتة وضعيفةً، رغم سعيها لفرض الحل السياسي الذي سعى الجميع لدعمه في وقت ما.
وأمام وضع كهذا يتعين على الأشقاء العرب أن يستخدموا كل قواهم الدبلوماسية لاستعادة الاهتمام الدولي، ولئن كان العالَم قد قام بتدويل الأزمة السورية، فإنه يتوجب الآن تعريبها أيضاً، وتذكير الجميع بأن مئات آلاف السوريين ما فتئوا يرتجفون من البرد في خيام تعصف بها رياح الشتاء وأمطاره منذ عشرة أعوام أو أكثر.


*وزير الثقافة السوري السابق