في ظلّ التطور التكنولوجي الذي بات أداة محرّكة للعصر الذي نعيشه بمختلف أوجهه وقطاعاته، لم يعُدْ ممكناً التغافل عن حقيقة ضعف حضور اللغة العربية في الفضاء الرقمي على الصعيدَين الكمّي والنوعي، فبحسب إحصائيات صادرة عن مؤسسات علميّة موثوق بها، يُقدَّر عدد الناطقين باللغة العربية بنحو 420 مليون شخص في العالم. ووفقاً لإحصائيات الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2021، بلغ عدد مستخدمي شبكة الإنترنت في الدول العربية 291 مليوناً، ولا تزيد نسبة المحتوى الرقمي المُنتَج باللغة العربية على 1.2 في المئة.
وبصورة عامة، استقرَّت اللغة العربية خلال العقد الماضي في المرتبة الأخيرة بين اللغات المهيمِنة على المحتوى المنشور في شبكة الإنترنت، البالغ عددها 11 لغة. وتتوزَّع النسبة الضئيلة التي يمثلها المحتوى الرقمي باللغة العربية على عدد من اللهجات العربية، وفيها قَدْر كبير من المحتوى الترفيهي أو الاستهلاكي، أما المحتوى المتخصص منها، فيعوز كثيراً منه الانضباطُ العلمي اللازم، وتغيب عنه قواعد التوثيق المتعارفة.
ولا تؤشّر هذه الأرقام إلى تدنٍّ واضح في حضور اللغة العربية بالمحتوى الرقمي فقط، بل أيضاً إلى العلاقات غير المنطقية التي تشِي بها بين العدد والأثر، والكم والكيف، والاستهلاك والإنتاج، وتفتح أبواب الهُجْنة والسؤال، وتجعل العمل واجباً لا يجوز التأخر عنه. وتشير الإحصائيات المبدئية لاستخدامات العرب مواقعَ التواصل الاجتماعي التي تُعَدُّ الواجهة الأكثر انتشاراً للتطور التكنولوجي، إلى أن كثيراً منهم لا يستخدمون اللغة العربية في مراسلاتهم والتواصل بينهم، فضلاً عن قلة المحتوى العربي المنضبط.
وأمام هذه الملامح التي يبدو أنها تُمثّل ظاهرة تستحق الدراسة يَفرض سؤال «الوجاهة» التقليدي الذي طرحه علماء الاجتماع عبر العقود، نفسه: هل يؤشّر استخدام لغات أجنبية إلى وجاهة اجتماعية ما؟ ويتولّد منه مقلوب السؤال: هل تخلو صورة اللغة العربية الذهنية من هذه الوجاهة؟ ومن ثَمَّ نتساءل: لماذا؟ لِنُدِرْ مفاتيح البحث العلمي.
عندما يفاخر الأوروبي مثلاً بلغته، وينأى عامداً عن استخدام المفردات الأجنبية، ويتسلّح بكلماته ومفرداته في مواجهة العالم، فإنه يفعل ذلك انطلاقاً من شعوره بالانتماء إلى أصل ما يميزه، في حين أن العكس يحدُث في عدد من المجتمعات العربية المعاصرة.
ولا أودُّ استسهال استخدام مقولة واضع علم الاجتماع، المفكر العربي الكبير ابن خلدون: «إن المغلوب مولَع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته، وسائر أحواله وعوائده»، وإن كنت أرى في الأمر شيئاً من هذا يحتاج إلى مزيد من البحث، ولكنْ -بلا شك- نحن في حاجة إلى عمل منضبط ودؤوب لاستعادة ثقة الأجيال بمكوِّنات هويتهم، وفي مقدمتها لغتهم.
إن إعادة تعبئة الصورة الذهنية للغة العربية عند أهلها، بما لها من منجَز عظيم ومكانة كبيرة، أمر لا مفر منه إذا كان هدفنا مشاركة اللغة العربية الفاعلة في الفضاء الرقمي، فالمشاركة لن تحدُث من فراغ، ويلزمها مشاركون مؤمنون بما يقومون به، وقادرون على التعبير عن ذواتهم ورؤاهم للعالم بمفردات لغتهم.
ولا فائدة من إنكار أن اللغة الإنجليزية هي لغة الإنتاج العلمي في كثير من المجالات في هذا العصر، ولا نقلل كذلك من أهمية تعلم، بل إتقان هذه اللغة وغيرها من لغات العالم بصفتها بوابات إلى الثقافات والحضارات. وأظنُّ أن معظم دول العالم تشجّع أبناءها على تلقي تعليم منظّم وممنهج للغات أخرى إلى درجة الإتقان، ولكنْ لا أحد يترك ثقافته ولغته عرضة لتأثيرات لغات أخرى مهما بلغت درجة حضورها في حقول العلم والمعرفة. 
والمستغرب أن كثيراً من الأسر في مجتمعات عربية عديدة باتت تتسابق لتعليم أبنائها لغات أخرى، ليس عبر إلحاقهم بمؤسسات تعليمية تنتهج أنظمة بلغات أخرى فقط، بل بتغيير نمط الحياة والتواصل والتفكير إلى المحتوى الفكري والثقافي الذي تحمله تلك اللغات أيضاً، فلا يعود الأبناء قادرين على التواصل أو التفكير أو الإنتاج باللغة العربية، كما أنهم -بلا شك- لا يعودون قادرين على الإبداع بها أو فيها.
ومن ثَمَّ، فإن دراسة الدوافع وراء هذا السلوك أمر لا مفر منه، ولا شك في أن ثمَّة تشابكات بين العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية في هذه الدوافع، وعلينا معرفتها بدقة علمية كافية للتعامل معها، ووضع الخطط اللازمة لتفكيكها وعلاجها.
ولا أغالي إذا قلت إن النموذج الذي تقدمه دولة الإمارات العربية المتحدة في الاهتمام باللغة العربية بصفتها لغة حضارة وعلوم وفنون وآداب وثقافة وفكر، وما تبذله من جهود في ربط الأجيال الجديدة بلغتها العربية بصفتها مكوناً أصيلاً من مكونات وجودها الحضاري وهويتها، هو نموذج ملهم يصلح للبداية منه والبناء عليه، لتعميم المنهج على امتداد الجغرافيا العربية، مع مراعاة ما يميزها من اختلافات في المكونات الثقافية والفكرية، والمؤشرات الأخرى المرتبطة بتكوين كل دولة. 
ويعكس «تقرير حال اللغة العربية ومستقبلها» الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، توجّه الدولة إلى ترسيخ العربية لغةَ علم ومعرفة وهوية، كما تكشف «الأجندة الوطنية للغة العربية» عن عمق ارتباط اللغة العربية بأهداف الدولة وأولوياتها في مئويتها المقبلة، فاللغة الأم ركيزة في الهوية الوطنية، فضلًا عمّا تبذله دولة الإمارات عبر مؤسساتها المختلفة، ومنها مركز أبوظبي للغة العربية، من جهود في تعزيز حضور العربية لغةً وفكراً وثقافةً وإبداعاً في النسيج الحضاري العالمي عن طريق الجوائز والمعارض والمبادرات النوعية، والشراكات الفاعلة مع مؤسسات وهيئات دولية مرموقة.
وتُمثّل حال اللغة العربية في الفضاء الرقمي الافتراضي انعكاساً لواقعها الحقيقي، ومن ثَمَّ علينا أن نحول اعتزازنا بلغتنا -بصفتها خزانة ثقافتنا وتاريخنا وتراثنا، وأداة تعبيرنا وإنتاجنا فنّاً وعلماً- إلى عمل فعلي على أرض الواقع، ومبادرات ومشروعات لتعزيز حضور اللغة العربية في جميع تفاصيل الحياة والعمل والتواصل، وتنمية قدرات الأجيال الجديدة على استخدام اللغة العربية للتعبير عن ذواتها ورؤاها وأفكارها وإبداعاتها، وستنعكس هذه الجهود -بلا شك- في الفضاء الرقمي تفاعلاً كبيراً، وحضوراً مختلفاً في الكمّ والنوع والتأثير.