الإمارات دولة صنعت نموذجها في وسط محيط من المتغيرات على المستوى الإقليمي والدولي، وتعاملت مع كل تحدياتها باستحقاق يشهد به العالم. من وسط الشتات العربي، أطلت دولة اتحادية، قضى مؤسساها المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمهما الله، أربع سنوات متتاليات في البحث عن شركاء لدرب الوحدة بعد أن ذاقت الجزيرة العربية مرارة الفرقة. لقد سمى أحد خبراء السياسة الغربيين تحركات زايد بين القبائل بالدبلوماسية القبلية، بسبب قدرته على إقناع شيوخ القبائل آنذاك بضرورة الاتحاد كضرورة الحياة.
التفت السواعد السبع حول الاتحاد كالتفاف السوار حول المعصم، وقطعت الشوط الأول في خمسين عاماً بإنجازات كبرى وكأنها حصيلة خمسمائة سنة، لماذا هذه القرون الخمسة وفي زمن قياسي؟
في سبعينيات القرن الماضي، استمعت إلى محاضرة من أستاذ كريم بجامعة الإمارات، خلاصتها، بأن العالم العربي والإسلامي حسب الدراسات الزمنية لتاريخ الحضارة الإنسانية قد تخلف عن ركب الحضارة المعاصرة قرابة 500 عام.
كيف للدول جبر هذا الفرق الهائل؟ ليس لها إلا حل واحد، باختراق جدار الزمن وإحداث ثقب في المستحيلات، لتتحول إلى واقع ملموس. لا يظن أحد بأن هذا النوع من التأخر الحضاري من نصيب العرب والمسلمين فحسب، لقد وقعت في براثنه كذلك الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس حتى زمن الحرب العالمية الأولى بعد أن سلمت الراية لأميركا.
في تسعينيات القرن الماضي أيضاً قامت بريطانيا بجرد أوضاعها فخرجت بنتيجة حاصل الضرب فيها، أنها متراجعة حضارياً 50 عاماً بسبب عدم اشتراكها في «كيبل الإنترنت» منذ البداية لتكلفتها العالية آنذاك، إلا أنها عندما تداركت الأمر متأخراً، دفعت رسوم الاشتراك أضعافاً مضاعفة، حتى تتمكن من اللحاق بركب الحضارة الذي لا ينتظر المتقاعسين.
أما الإمارات، فقد اعتمدت على سرعة الأسد وقفزة الغزال في عقودها الأولى، ولكن بعد ذلك لجأت إلى سرعات فرط صوتية في جميع مشاريعها المستقبلية، وخاصة بعد النجاح في اختراق عقودها الخمس في بناء نموذجها المتفرد في بصمتها الحضارية.
المعادلة الناجحة كانت في اختيار آخر ما توصلت إليه البشرية في مختلف العلوم والتقنيات المعاصرة، ففي السماء، طموحها لم يقف عند القمر، بل مسبار أملها يرفع كف التحية عالية للإمارات في أرض المريخ، والكواكب الأخرى، ضمن رؤية مستقرة بين ناظريها في غضون الخمسين سنة المقبلة والتي تم التخطيط لها من الآن.
أما على الأرض، فهي رمز للتسامح والتعايش والانفتاح، ورمز للإسلام المعتدل الذي ينبذ الكراهية والعنصرية والطائفية في شتى صورها. فالسلم المجتمعي حصن للاستقرار والسعي للسلام العالمي جهد لضمان مستقبل آمن لشعوب الأرض قاطبة.
ويدعم كل ذلك مبادرات تخدم مئويتها المقبلة في مشاريع تسبق زمنها وتتخطى بها أسوار التحديات التي تتحول إلى فرص واعدة في رؤية القيادة الرشيدة، التي لا تقف عند المستحيل لأنها ترى الوقوف عنده تأخراً، فالإمارات رضيت أن تجمع العوالم في عالمها الخاص الذي لا يشبه إلا نفسه ولا تدعو الآخرين إلى تقليدها، بل إلى استلهام تجربتها.
* كاتب إماراتي