لا يولد الإنسان بعقلية جاهزة ولا يولد عاقلاً، ولكن بقابليات موروثة محدودة لتعقل الإيجابي، وأما القابليات الفارغة والمفتوحة والحواس المتعطشة للتعقل هي العامل المهيمن في مسيرة العقلنة. العقلية تصنع وتتشكل من خلال البيئة المحيطة المباشرة وغير المباشرة من ملموسة وغير ملموسة، حتى يصل الإنسان لوعي معين يتحول لنسبية معيارية تعكس درجة تشبّع العقل نتيجة ما استقبله بصورة شعورية وغير شعورية، وكل ما خزنه في عقله الباطن ليستدعيه للتعامل مع الاحتياجات الأساسية والثانوية، دون تجاهل ضرورة نمو مساحات الجهل والذي يمثل قبولها معرفة بحد ذاته.
فالعقل الواعي هو من يدرك أن المزيد من المعرفة قد يعني المزيد من الجهل، وكلما زادت قدرات العقل وخبراته زاد نقصه وحاجته لفك الرموز المعقدة للمعرفة. المجتمع العربي تاريخياً قائم على فكرة الأفضلية والتفوق لجنسه وقيمه، ولا زلنا نتساءل: هل يعيش العقل العربي أزمة تقبل الآخر المختلف عنه خارج نطاق موروثه الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي؟
فالصفحة البيضاء لعقل الإنسان تحتاج أن يكتبَ عليها هو بذاته أكثر مما يكتبه عليها الآخرون، وهو التحدي الحقيقي لكسر حاجز التبنّي التلقائي لمدخلات نشأة الإنسان وما زرع به من قناعات وعقائد فكرية وسلوكية، ويتضمن ذلك المعرفة العلمية التي يحصل عليها والأحكام المسبقة، والأفكار والقيم والتصورات الكبرى لمجتمعه والتي تعمل على قولبة العقل، ولذلك هناك جهل متأصل قد يجعل حتى من يحملون أكبر الشهادات العلمية والألقاب الفكرية جزءاً من ميكنة التصورات السلبية عن كل أو بعض المختلفين عنهم، وعليه أن مجرد التفكير في كيفية التعايش وقبول الآخر المختلف هو نقص جوهري في تكوين العقل والثقافة المحيطة بذلك العقل.
وقد حدث الانقلاب الحقيقي في ماهية العقل العربي بعد فترة ازدهار الحضارة الإسلامية العالمية عندما بدأت مفاهيم إعاقة التنوع وقبول الآخر تنتشر في المنطقة، وذلك مثل أن العربي بالضرورة بدوي، وثقافة وقيم وأساطير البداوة هي المعايير الأجدر بتسليط الضوء عليها واختزال الثقافة العربية فيها، مع أن البدو طوال التاريخ العربي يمثلون الأقلية في مختلف المجتمعات العربية، بينما سكن الأغلبية في المدن والقرى وعلى طول السواحل وضفاف الأنهار، وفي المناطق الزراعية والجبلية والسهول وفي الواحات، ولذلك كان العقل السائد لدى العرب هو العقل القياسي الذي يحتاج للنسخة الأصلية ليقيس عليها، ناهيك عن دور العقل الترادفي لدى العرب، وهو الذي يرى البلاغة وعلم الأنساب وتدوين السير والتاريخ وفق وجهة نظر من دونه حجة على الآخرين، كما نشأ العقل الاتصالي، وهو العقل الذي يسأل ويحتاج لمرجعية لكي يأخذ منها الإجابة وإلّا كانت هناك قطعية معرفية، وبالتالي اتساع دائرة التحيّز والقبول الانتقائي للآخر المختلف دون فرض حوار مشروط معه وفهم منطلقاته العقلية.
نتائج مدمرة لتعميم الصورة الغربية للعربي عالمياً وتأثيرها حتى على العربي نفسه، والهزائم التي تعرضت لها الأمة العربية منذ قرون وفشل الرؤى من قومية وعلمانية وإسلامية واشتراكية، إلخ. وهناك عوامل عمّقت تقوقع المجتمع العربي على نفسه والغرق مجدداً في الإقطاعية والقبلية والطبقية والاستهلاكية، وتمجيد الذات والثقافة المحلية وأمجاد الماضي ودور تحديث منظومة الدين في كل عصر والذي يمثل عقل تاريخي عابر للزمان والمكان والزمان ورمزية التعامل مع الأخر بالقوة كفضيلة واستعلاء وأفضلية وسيادة إثنية تمنح بالوالدة، واتباع المنتصر والتهليل له ولثقافته، أو رفضها بالمجمل وتباعاً موجات العنف والتعصب الديني والسياسي. ولربما عادت الشعبوية بقوة للساحة في الشرق الأوسط كما هو الحال في أوروبا، واصطدام متوقع بين نماذج الثقافات والسلوكيات المجتمعية المقبولة في كل مجتمع وليس صراعاً بين ثقافات متباينة فقط، وهو ما سيغذي تحول الاختلاف لخلاف بما في ذلك نظرة العربي للآخر المختلف، وستبرز أهمية إصلاح البنية التأسيسية لأنماط التفكير العقلية للأجيال الحالية والقادمة كبوابة لنشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات