رغم ما ذكرناه حول خبرة روسيا على صعيدي النظام الرأسمالي والتجربة الديمقراطية، إلا أن معرفتها بما مرت به دول أخرى حول العالم من تجارب في عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين يزودها بشيء من الخبرة وربما المناعة ضد العديد من الهفوات وفرص لتفادي العديد من الأخطاء، خاصة على الصعيد الاقتصادي.
والحقيقة هي أن الغرب متردد جداً ومنذ بداية انهيار الاتحاد السوفييتي في قبول روسيا كدولة غربية خالصة.
وبغض النظر عن التطلعات الروسية بهذا الشأن، إلا أن المشاكل الشائعة القائمة و«المهمة التاريخية» التي كان ينادي بها التيار المؤيد لانضمام روسيا الكامل إلى الغرب في أوساط الساسة الروس تعيق قدرة روسيا طويلة الأمد على التعاون الاقتصادي الطبيعي وتحسين مركز روسيا التجاري في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية فباستثناء مصادر الطاقة من نفط وغاز، وتحول روسيا إلى مصدر للمواد الخام الأولية والعمالة الرخيصة كدولة من دول العالم النامي، ينظر الغربيون إلى روسيا بأنها لا تستطيع أن تقدم لهم شيئاً، وبأنها دولة من الدرجة الثانية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الدول النامية التي يتواجد فيها النفوذ الغربي بقوة ويؤثر عليها الإعلام الغربي أخذت تنظر إلى روسيا بعين أقل ثقة من تلك التي كانت متواجدة في أيام توازنات الحرب الباردة، أي أقل ثقة من تلك التي تنظر بها إلى دول الغرب، فهذه الدول صار لا يتواجد لديها مبررات كافية بإمكانية افتتاح فرص أمام روسيا لكي تنال وضعاً جيوبوليتيكياً مفضلاً في مناطق مفصلية من العالم، ومع مرور الوقت أن تدخل في مصاف الدول العظمى والكبرى التي تقود العالم في هذه المرحلة.
لكن روسيا لديها موقفها الخاص تجاه هذه النظرة، فتعاملها معها وإصرارها عليها في المراحل الأولى منذ تفكك الاتحاد السوفييتي يفصح عن فكر خاص مغاير تماماً عمّا يفكر فيه الآخرون وهي لديها تفسيراتها التي تهدف إلى إعادة وضعها الطبيعي كقوة عظمى افتقدته الدولة الروسية في غفلة من الزمن، في نفس الوقت الذي ترفض فيه النظام العالمي القائم على وجود قطب وحيد ودولة عظمى وحيدة تحاول فرض هيمنتها على كافة سياسات العالم ودوله واقتصاده.
ورفضاً لهذه الطروحات والمواقف والاعتقادات الروس لديهم فكرهم الخاص بهم بما يعتقدونه عن أنفسهم وبلادهم، فهم يعتقدون في قرارة أنفسهم بأن لديهم في هذا العالم «مهمة تاريخية» خالدة لا يحيدون عنها.
هذه المهمة التاريخية محورها أن روسيا دولة عظمى لديها رسالة عالمية تحملها وتعمل من أجل تحقيقها قوامها عناصر محددة وأهداف راسخة تحدد سياستها الخارجية دون مرارة أو تحفظ.
سياسة روسيا الخارجية تهدف إلى تأمين أوضاع عالمية أو نظام عالمي يعمل في مصلحة جميع شعوب العالم بما في ذلك الشعب الروسي ذاته، ما يعني البناء الداخلي لروسيا أولاً، وعلى حماية الدول والشعوب الضعيفة حول العالم من طمع وجشع واستغلال كل من الرأسمالية العالمية والإمبريالية العالمية والاستعمار بكافة أشكاله الجديدة والمستحدثة؛ وعلى تقوية العدالة الاقتصادية والسياسية بين شعوب الأرض؛ وعلى دعم كفاح الشعوب التي تسعى إلى تحرير أوطانها من الاستغلال الخارجي وتحقيق مصالحها الذاتية بوسائلها الخاصة وتقدمها السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ وعلى منع الحروب العدائية ما لم تكن هناك مبررات أمنية وسيادية لشنها؛ وعلى تحقيق نزع تسلح كامل بين أمم الأرض بشكل متوازي ومتكامل ومتساوي؛ وعلى تنفيذ مبادئ العيش المشترك بسلام بين الدول ذات النظم السياسية والاجتماعية المختلفة.
ومن وجهة نظر الفكر السياسي الروسي، فإن الروس يقولون ما يعنونه فعلاً، فهم يسعون إلى خلق أوضاع من أجل صالح بناء روسيا من جديد وحماية مصالحها من زاوية أمنها الوطني ومصالحها حول العالم.
ومن وجهة نظرهم وفكرهم الخاص هذه تطلعات مشروعة ومعقولة ومبررة كأهداف يتم السعي نحو تحقيقها، لكن الأمر المدهش هو أن السياسيين في الغرب والعديد من المعلقين والدارسين فيه يرفضون تصديق هذا الفكر الروسي الخاص وبأن الروس يعنون فعلاً ما يقولون.
وهنا يمكن القول بأن النظريات القديمة لتوازن القوة قد تكون سقطت في أعين العديد من الأكاديميين العاملين في حقل العلاقات الدولية، لكنهم متمسكون بممارسات ومناظير السياسيين المحترفين في الغرب، الذين ربما ولسوء الحظ يتحملون المسؤولية لسوء إدارتهم للنظام الدولي، ويدفعون به في اتجاه تحقيق مصالح دول بعينها دون مصالح المجتمع الدولي برمته.
* كاتب إماراتي