قيل إنه في التاريخ فقط تتمكن الأمم من وعي ذاتها وعياً تاماً. والعبارة لا تُفهم على إطلاقها هكذا، فالتاريخ لا يعني هنا البطولات والأمجاد والمعارك وقادتها، فهذه نظرة سطحية معبأة بالأمنيات الساذجة حول التاريخ، لكن التاريخ يعني تفاصيل العيش والحياة والظروف اليومية التي تعكس طريقةَ التفكير وذهنية الأسلاف في وقتهم إزاء أمورهم وشؤون زمانهم.
لن نتحدث عن جذور التطرف الديني، لكن سنمر في خلاصة سريعة على ما تركته وقائع تاريخية عن مصر كمثال في هذا الخصوص. أول نهضتها وصعودها على يد الضابط الألباني محمد علي باشا، والذي تدل الوثائق على علمانيته الأصيلة قبل ظهور هذا المفهوم والتشدق به كثيراً على لسان أدعيائه فيما بعد.
في كتاب ألّفه الأمير العربي شكيب أرسلان من جبل العرب في بلاد الشام، وعنوانه «مدونة أحداث العالَم العربي ووقائعه»، والذي يشمل الفترة من 1800 إلى 1950، نقرأ في تلك الوقائع أن محمد علي بعد تسلّمه سلطةَ الحكم في مصر صيف عام 1805، دحر في العام نفسه المماليكَ الذين رأوا فيه تهديداً لمصالحهم، وبعدها بعام دحر العثمانيين الذي لم يستطيعوا عزله، وفي العام الذي تلا ذلك، انتصر عسكرياً على الإنجليز ووقَّع معهم (بناءً على طلبهم) معاهدةَ صلح أعقبها «جلاء» الإنجليز عن أرض مصر عبر الإسكندرية.
بدأ هذا الرجل الألباني حكمَ مصر بعقلية رجل الدولة، فباشر فوراً ببناء سد «الفرعونية»، كما بدأ بإرسال بعثات من الطلبة المصريين إلى أوروبا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة والحقوق والطب. ولم يكتف بذلك بل أنشأ «مدرسة للهندسة في القلعة، وكان التعليم فيها مجاناً والحكومة تؤدي رواتب شهرية لتلامذتها»، حسب نص مدونة الأمير أرسلان.
في عام 1821 بلغت الأراضي المزروعة في «مصر محمد علي» حوالي مليوني فدان. لكن الأكثر إثارةً، في رأيي، هو إنشاؤه مطبعةَ بولاق الشهيرة، وكلنا درسنا ذلك في مناهج التاريخ. غير أن المذهلَ كان هو اختيار «نقولا مسابكي» مديراً لها «لطبع الكتب في الطب والرياضيات والآداب والتاريخ والعلوم الفقهية». إن اسم مدير عام مطبعة بولاق، أول مطبعة في العالم العربي والإسلامي، يوحي بهويته وخلفيته الشخصية، لكنها آنذاك لم تكن تعني شيئاً للدولة التي يحكمها ألباني قادم من طرف أوروبا القصي، يحمل عقليةَ الدولة ككيان لا كأشخاص.

نحن نتحدث عن وقائع وقعت في القرن التاسع عشر، بما تشي به تلك الوقائع من طرق تفكير، وذهنيات تحكم البشر والمجتمعات حينها.. مفترضين أن النهضة بدأت من هناك، لتسير صعوداً حسب التطور الطبيعي حتى يومنا.
أما مع التقدم «حسب خط البيان التاريخي» وصولاً إلى بدايات ألفيتنا الراهنة، فيحدث كثيراً أن نجد أنفسَنا أمام خبر تفجير انتحاري إرهابي أعمى.. باسم الله ليستهدف عباد الله! بكل وجع القلب أتساءل: لماذا؟

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا