كثرت في العقدين الأخيرين الدراسات التي تُعنى بالدين والأخلاق. وكان المقصود بها لدى الغربيين إعادة الاعتبار للدين، باعتباره أساساً للأخلاق في الزمن ما قبل العلماني. وقد تبين لبعض فلاسفة ما بعد الحداثة أنّ معظم القيم العلمانية في زمن التنوير وما بعده هي ذات أصول دينية. ومن أجل تكامُل الإنسان في بُعديه الروحي والقانوني صار البحث في الترابط بين هذين البُعدين مرغوباً فيه.

ففي عام 1971 نشر جون راولز كتابَه «نظرية العدالة» الذي أثار جدلاً شديداً طوال خمسين عاماً وأكثر، بشأن الواجب الأخلاقي للدولة، وما هي المقاربة الأجدى؟ الجماعاتية أم الفردية؟ وهل يكون ذلك ضرورياً أم أنّ الأخلاق الفاضلة ذات البعد الخيري هي مِن مهمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية؟

بعد راولز جاء هانز كينغ فطرح سؤالاً مباشراً وتحدياً للأديان ومجتمعاتها عندما قال: لا سلام في العالم إلاّ بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالاتفاق على أخلاقٍ عالمية.

ولعب الفلاسفة دوراً مهماً في النقاش عندما تدخّل فيه اثنان منهم شهيران: بول ريكور وتشارلز تايلور، وهما يقرآن القيم الدينية في السياقات التاريخية للنصوص، لكنهما ينبهان إلى أنّ التأويلية الحديثة والمعاصرة مهمة جداً لإعادة التلاقي بين الديني والعلماني أو التقليدي والحديث. إنّ هذا التقارب بين الديني والأخلاقي على مستوى الفلسفة والفكر وإعادة النظر في معاني عودة الدين، دفعا كثيرين إلى طرح مقاربةٍ أخلاقيةٍ لمشكلات العالَم.

فقد قال المفكر الكاثوليكي المعروف هانز كينغ -كما سبق القول- إنه لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالاتفاق على أخلاقٍ عالمية. ولذلك، ومع انتهاء الحرب الباردة، صارت شعارات التسامح والسلام والعدالة سائدة ليس على مستوى الفلسفة والفكر الديني وحسب، بل وعلى مستوى العلاقات الدولية.

وفي زمن صعود الأصوليات بالذات، قدّم المفكرون الإسلاميون والمسيحيون إسهاماتٍ بارزةً في المجال المشترك للعمل الديني والأخلاقي. فالمقاصد الشرعية أو الكليات الدينية، كما يسميها العلاّمة عبدالله بن بيه، هي كلياتٌ أخلاقيةٌ غايتُها حفظ النفس والدين والعقل والنسل والملك باعتبارها أولويات.

وفي وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها وأصدرها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، من أبوظبي عام 2019، يذهب البابا والإمام إلى معالجة مشكلات العالم الكبرى متمثلةً في الفقر والأوبئة والاختلاف البيئي والصراعات الاستراتيجية والتفرقة بين بني البشر على خلفياتٍ عنصرية، كلُ ذلك باعتبار الأصل الواحد للإنسان، والقيمة الإنسانية الواحدة، والتساوي والتشارك في كل شيء ناجم عن ذاك الأصل الواحد.

فهل أسهم التقارب الديني الأخلاقي ودخوله في المجال العالمي في جعل حظوظ السلام أكبر؟ لا يظهر ذلك في العالَم الواقعي لجهة الصراعات الاستراتيجية المستمرة، لكنه يَظهر في مجالات حول القيم المشتركة أو ما يشبه الواجبات الأخلاقية والقانونية في معالجة مشكلات العالم المتفاقمة.

وهناك من يعتبر أنّ مشكلات البيئة والفقر والأوبئة والاحتباس الحراري وما شابه ذلك، هي العلة وراء الصراعات الاستراتيجية على الموارد والمجالات في البر والبحر والجو. بينما يرى آخرون أنه لا علاقة بين الأمرين، بدليل أنّ الدول المثيرة للنزاعات هي الأكثر تملكاً للموارد.. لذلك لا بد من الاهتمام بمشكلات العالم المتفاقمة، وهي أخلاقيةٌ في وجهٍ من وجوهها على أقل تقدير!

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية