مثلت أزمة الصواريخ الكوبية أكبر أزمات الحرب الباردة في عام 1962، إلا أنها مثلت مرحلة تحول في التفكير الاستراتيجي وكيفية إدارة الأزمات، ففي حين أرادت المؤسسة العسكرية لدى الطرفين استعراض عزيمتها، كان للدبلوماسية مكانتها المتقدمة في إدارة عناصر الأزمة المتحرك منها «العسكرية» والقرار السياسي «البيت الأبيض والكرملين».

العالم اليوم اختبر ما هو أعمق من أزمة الصواريخ الكوبية نتيجة التواتر المتصل لأزمات كبرى، صاحبتها هشاشة في الاقتصاد الدولي جراء جائحة «كوفيد - 19»، وهشاشة اجتماعية في عموم جنوب الكرة الأرضية. مما رفع من مستوى التحسس الاجتماعي في الشمال من مستويات الهجرة لأسباب اقتصادية وعدم استقرار سياسي من الجنوب.

العولمة لم تحقق العدالة الاقتصادية التي وعد بها واضعو تلك النظرية، بل عمقت حدة الصراع على النفوذ وتحولت الدبلوماسية من أداة احتواء إلى شكل آخر من الاستذئاب والتوحش. إلا أن الأدوار قد اختلفت في التعبير عن مستوى الإحساس بالمسؤولية الوطنية والتاريخية بين المؤسستين السياسية والعسكرية وتحديداً في إدارة الأزمات.

وقد عبر رئيس هيئة الأركان الأميركي الجنرال «مارك ميلي» عن مدى الإحساس بالمسؤولية الوطنية إبان حالات التصعيد المتكرر بين كل من الولايات المتحدة والصين إبان إدارة الرئيس ترامب، فقد رشح من خلال الإعلام الأميركي حيوية ما اطلع به من دور متقدم في خفض مستوى التصعيد عبر مخاطبة نظيرة الصيني بشكل مباشر، كلما لوّح ترامب بالعصا الغليظة عسكرياً. كذلك ارتأت الصين ضرورة في التراجع النسبي سياسياً بعد تهديدها بغزو تايوان في حال نفذت رئيسة مجلس النواب الأميركية السابقة نانسي بلوسي زيارتها للجزيرة في أغسطس 2022، فالصين تدرك أن المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة لن تكون تقليدية أو قابلة للاحتواء تقليدياً، ناهيك عن خسارتها لمكتسبات استراتيجية. لذلك فضلت بكين التراجع النسبي، والبناء على ما تحقق من مكاسب، وتوظيف أدوات سياسية أخرى في الإعراب عن موقفها السياسي عبر وكلاء «كوريا الشمالية». المؤسسة العسكرية الأميركية أظهرت إحساساً بمسؤوليتها الوطنية والتاريخية في أكثر من مناسبة منذ 2001 إلى يومنا هذا، وقد عبر الكثير من الجنرالات عن استيائهم من الإدارة السياسية للأزمات الناتجة عن الحرب على الإرهاب وصولاً للأزمة الأوكرانية. فلقد حذر الكثير من الساسة والعسكريين من ضرورة الحد من استفزاز خصوم تقليديين مثل روسيا بالتمدد شرقاً وصولاً لحدودها الغربية عبر أوكرانيا.

وكذلك استخفاف واشنطن بالصين وبضرورة احتوائها اقتصادياً، بدل تحفيز الأخيرة على الانتقال للخصومة السياسية.

الدبلوماسية النووية أثبتت عبثيتها الاستراتيجية عبر التاريخ، إلا أن استمرار تعمق حالة عدم الاستقرار السياسي دولياً سوف يدفع بالكثير من الدول لمسار الخيار النووي للدفاع عن مكتسباتها الوطنية، وتلك هي المعضلة التي سيواجهها العالم في حال استمرت الولايات المتحدة في محاولة اكتشاف ذاتها سياسياً، دون إدراك مسؤوليتها القيادية. ومساءلة الولايات المتحدة هنا هي نتيجة طبيعية لمكانتها القيادية.

* كاتب بحريني