في كتابه الأخير «التفكير في التاريخ، التفكير في الدين»، الصادر بالفرنسية بالتزامن مع رحيله، يطوف بنا المفكر التونسي هشام جعيط في مسارات الفلسفة والحضارات الإنسانية بعلم عزير وملاحظات جريئة. ومن الأفكار الأساسية في الكتاب توجيه النظر إلى سطحية الأطروحة السائدة حول ثنائية الشرق والغرب التي تعني إجمالا التعارض بين العالم الغربي ذي الأصول المسيحية والعالم الشرقي الإسلامي. ما يبيّنه جعيط هو أن هذه الثنائية جديدة، تعود إلى عصور التفوق الأوروبي بدايةً من القرن الخامس عشر، وليس لها مسوغات موضوعية صلبة.

فقد كان العالَمُ طيلة قرون طويلة منقسماً حول مجال غربي واسع يشمل مصر واليونان وبلاد الأناضول والهلال الخصيب وفارس والهند والهضبة الأوربية التي كانت شبه فارغة من السكان، ومجال شرقي يتكون إجمالا من العالم الصيني أي ما وراء الهند إلى اليابان. أما أفريقيا باستثناء مكوناتها المتوسطية، فكانت خارج التاريخ لمدة طويلة، نتيجة لعوامل جغرافية عزلَتْها عن بقية العالم.

لقد ترجمت ثنائيةُ الشرق والغرب في البداية انقسامَ الإمبراطورية الرومانية إلى جزأين متمايزين، في حين ربطها هيرودوت بالحروب الميدية بين المدن اليونانية والدولة الفارسية التي أدت إلى انفصال آسيا عن أوروبا.

بيد أن هذه الثنائية لا تعني الشيءَ الكثيرَ بالنسبة للتاريخ في زمنيته الطويلة الممتدة من العصر الحجري الحديث إلى الفترة الراهنة. فقد شكّل الغربُ بمفهومه الواسع مركزَ العالَم لقرون طويلة، وكان جناحه الشرقي هو محور هذا الفضاء الكبير، إذ ظهرت فيه الحضارات النهرية الكبرى والأديان السماوية والإمبراطوريات العظمى.

بل إن الإمبراطورية الرومانية اتجهت أساساً إلى الشرق واتخذت من القسطنطينية عاصمتَها، وحتى عندما بدأت النهضة الأوروبية الحديثة انطلقت من المدن الإيطالية ذات الارتباط الوثيق بالجناح الشرقي من المجال الغربي الموسع. لقد اكتشفت المنطقة التي سميت في ما بعد الشرق الأوسط أو الأدنى كل مرتكزات الفكر الإنساني من الكتابة إلى التقري المنزلي، إلى الملاحة والزراعة، وفيها ظهرت الديانات التوحيدية الكبرى، وتشكلت بوادر علم الفلك والرياضيات.

والسؤال الذي يطرحه جعيط هو: ما مبررات الفصل بين مكونات الغرب، بحيث يتم عزل ما قد أصبح يعرف بالشرق الإسلامي عن أوروبا وعن الهند، وتتحول هذه الثنائية المفتعلة إلى مفتاح لفهم وإدراك المعادلة الجيوسياسية والحضارية للعالم اليوم؟

وبطبيعة الأمر يرفض جعيط التفسير التقليدي الذي اشتهر في نظرية أرنست رينان حول عقلانية الغرب والغرائبية السحرية السامية، ذلك أن المنطقتين تشتركان في نفس المقومات العقدية والفكرية العميقة من مرجعيات دينية وفلسفية، سواء تعلق الأمر بالتقليد التوحيدي أم بالفلسفة اليونانية التي تشكلت في الجناح الآسيوي من العالَم الإغريقي وتداخلت بكثافة مع الثقافة الإسلامية الوسيطة قبل وصولها إلى أوروبا الحديثة.

ليس هنا مجال لتناول أسباب صعود أوروبا في العصور الحديثة وتراجع الشرق الإسلامي، وكثيراً ما تفسر هذه الظاهرة بمعطيات الإصلاح الديني وتأسيس الدولة المدنية الوطنية. بيد أن جعيط يرفض أطروحة الجذور اللاهوتية المسيحية للعلمنة من حيث التصور الإنساني للألوهية (ماكس فيبر ومارسال غوشيه)، متسائلا حول قابلية هذا المسار الإقصائي للدين من الشأن العمومي للتمدد خارج أوروبا الغربية.

وفي هذا الكتاب، يخرج بنا جعيط عن المقاربة السائدة حول شرقية العالم الإسلامي، وهي المقاربة التي تبناها جيل واسع من المفكرين العرب من مشارب مختلفة (من مالك بن نبي إلى أنور عبد الملك) وبنى عليها هنتغتون نظريتَه الشهيرةَ حول «صدام الحضارات» من خلال حديثه عن التحالف الإسلامي الكونفوشيوسي.

وإذا كان طه حسين اكتفى في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» بإرجاع الشخصية المصرية إلى الحضارة الغربية، بالاستناد إلى معطيات تاريخية وفكرية في مقدمتها التداخل الكثيف بين الثقافتين المصرية واليونانية، فإن طموح جعيط يتجاوز هذه الفكرة بحيث يبين بوضوح الجذور المشتركة العميقة بين ما أصبح يعرف بالشرق الأوسط والغرب.

قبل سنوات، كتب المفكر الإيراني الراحل داريوش شايغان كتاباً بعنوان «النور يأتي من الغرب»، ذهب فيه إلى أن كل إنسان حديث هو بمعنى ما غربي، لأن ديناميكية الحداثة قد التبست بالتغريب بطريقة لا انفكاك منها. ما يبينه جعيط هو أننا بالفعل غربيون لا بالمعنى الحالي السطحي، ولكن من المنظور التاريخي العميق الذي يبرر القولَ بأن ما يعرف حالياً بالشرق الأوسط هو محور وقلب العالم الغربي.

*أكاديمي موريتاني