يوم أمس، سألني خبير سياسي عربي، يهتم ويتابع ملامح التقارب السوري التركي، عن وجهة نظري فيما ستؤول إليه تصريحات وبيانات الطرفين، وبدا متشائماً وهو يقول إنه يستحيل أن يتم ذلك التقارب بوجود شروط للطرفين مثل «إنهاء الاحتلال التركي لشمال سوريا»، أو حتى «من دون شروط على الإطلاق»، حيث تتداخل مصالح عليا لكافة الأطراف ومنهم على سبيل المثال: سوريا، تركيا، روسيا، أميركا، إيران، إسرائيل، الأكراد، العراق، المعارضة السورية، الجماعات المسلحة الإرهابية، الأردن ولبنان وكذلك الاتحاد الأوروبي، وأطراف أخرى كثيرة!
علينا أن نتفق أن إنهاء حالة الحرب بين سوريا وتركيا تُشكل مدخلاً رئيسياً لكل ما سيأتي بعد ذلك من فرص وتحديات قابلة للمناقشة، وتلعب النوايا دوراً حاسماً في ذلك، وأعتقد أن النوايا السورية والتركية حالياً في أفضل حالاتها، فالجميع ينظر إلى مستقبل يعمّ فيه السلام، ومع ذلك تقف مخاوف كبرى أمام حصان المصالحة الذي انطلق عبر تصريحات وعبر مبادرات سياسية تلوح في الأفق.
أهم ما يمكننا التركيز عليه هو ضرورة أن تستمر عربة المصالحة بين سوريا وتركيا، لما في ذلك من أهمية كبرى لمنظومة الشرق الأوسط كافة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أيضاً، ولنتخيل سوية ما كان عليه الأمر خلال الفترة من العام 2000 إلى العام 2009 التي توجّت بعدة اتفاقيات ومنها توقيع اتفاق إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين وتأسيس مجلس تعاون إستراتيجي مشترك وبدء التعاون والتبادل والتفاهم على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والاقتصادية، رغم حالة الجفاء والعداء التي بدأت منذ العام 1946 بين البلدين.
ما يقوله التاريخ هناك، إن كل شيء ممكن، لا يمكننا الحديث عن مستحيلات كعلاقة إيران مع إسرائيل أو العلاقات الروسية الأميركية المتوترة، وكذلك أيضاً القضية الكردية التي يرى البعض أنها تقف كحجر عثرة رئيسي في أية مصالحة وتوافق ممكن، فمن ناحية فلسفية ليس هناك شيء مستحيل، كما تقول العرب، إلا الغول والعنقاء والخل الوفي، ومن ناحية سياسية فليس هناك شيء مستحيل على الإطلاق، فمن كان يتخيل مثلاً أن العلاقات اليابانية الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، وما جرى فيها، قد تصل إلى المستويات التي وصلتها الآن من الشراكة والتحالف؟
هناك طريقان، من وجهة نظري، الأول أن يجري تعيين لجان «خمسة زائد خمسة»، على غرار ما جرى في ليبيا داخلياً، لكن في إطار دولي، برعاية الأمم المتحدة: بتعيين مندوب لكل دولة طرف في الأزمة، الخمسة الأولى مكونة من سوريا وروسيا وإيران والعراق والأكراد والخمسة الثانية مكونة من تركيا وأميركا وإسرائيل والأردن والمعارضة السورية، ورغم تحديات ذلك، كوجود روسيا وأميركا في هذه اللجان وصعوبة جمعهما في هذه المرحلة، إلا أن وجود العراق والأردن في لجنتين مختلفتين، ولأنهما متفاهمتين كليا، سوف يسهم بشكل كبير في إيجاد أرضة مشتركة لحلحلة كافة المسائل المستعصية، حسب وجهة نظري.
الطريق الثاني هو لقاء مباشر بين الرئيسين السوري والتركي، برعاية روسية أو غيرها، ينتج عنه لجنة مشتركة قادرة على تهدئة الأطراف الذين سيغضبهم هذا اللقاء، أو يتعارض مع مصالحهم، وكذلك تعمل اللجنة على إعادة الأمر إلى ما كان عليه في العام 2009، حيث إن التفاهم والتعاون السياسي بين سوريا وتركيا سيفضي حتماً إلى تفاهمات اقتصادية تنعكس نتائجها بشكل فوري على الشعبين حيث تعود تركيا بوابة سوريا إلى أوروبا والعالم وتعود سوريا بوابة تركيا إلى الوطن العربي والخليج بصورة خاصة.
سيميل الكثيرون نحو الطريق الثاني، باعتباره قصيراً وفاعلاً، ولكن من ناحية استراتيجية، ومهما بدا الطريق الأول شائكاً، فإنني أعتقد أن «المعضلة السورية التركية» ليست مجرد مشكلة بين بلدين، بل هي أزمة دولية يجب حسمها بوضع وصفة صالحة ومقبولة لكافة الأطراف الحاليين، ضمن جدول زمني، وقد تكون تلك الوصفة أو الفكرة، برعاية أوروبية أو إماراتية أو كليهما.
قلت للخبير السياسي العربي، أظن أن تمهيد الطريق لأي مصالحة واتفاق سوري تركي استراتيجي، طويل المدى، يبدأ بتراجع روسيا وإيران خطوة عن رعاية المفاوضات، وترك أطراف محايدة للقيام بذلك، وإلا فإن أي توافق حالي سوف يصطدم الآن أو لاحقاً بمصالح الأطراف الأخرى التي ترفض الوجود الإيراني أو الروسي في سوريا، ما يهدد تلك الفرصة التاريخية التي ينتظرها الشرق الأوسط بفارغ الصبر.

* لواء ركن طيار متقاعد