أزمتان متتابعتان واجهتهما البشريةُ بأكملها كانتا كافيتين لنتعلّم منهما معنى التعاون والتشارك في الموارد وتعظيمها، ولنحترم الطبيعة التي ننتهكها بلا رحمة، وهي طبيعة قادرة على الرد بقسوة أيضاً.
كانت جائحة كورونا تمريناً مهماً لفهم معنى الحياة بكل تفاصيلها، حين ألزمتنا بيوتَنا لفترة طويلة من الزمن وجعلتنا مقيَّدِين في حركتنا، مدركين لأول مرة في عصر الاستهلاك المجنون أن مواردَنا محدودةٌ وقد نفقد قدرة الحصول عليها بسهولة في لحظة فارقة.
لم تكن كورونا نفسها مهتمةً بالهويات ولا بالأديان ولا المعتقدات، كانت تستهدف البشريةَ دون أي اهتمام بالحدود ولا القضايا الوطنية ولا الاختلافات العقائدية.. ولا كل ما نتنازع عليه! فهو فيروس متناهي الصغر، لا تمكن رؤيته، ينتقل بالعدوى مع الحد الأدنى من التواصل، وذلك درس بالغُ الأهمية في إعادة تعريف وفهم معنى التواصل الإنساني الذي استطاع أن يهزم الفيروسَ بالتعاون والعلم والمعرفة فقط لا غير.
تلك الجائحة باغتتنا على هذا الكوكب كله، في ذروة عصر ثورة تكنولوجيا المعرفة والمعلومات، تلك الثورة التي كان أجدى لنا أن نفهم حضورَها بيننا كأداة تواصل فوق «خلافية»، وقد استطاعت فعلياً أن تحوِّل العالَمَ إلى قرية واحدة، لكن لم نفهم ذلك حينَها وبقينَا على أزماتنا وخلافاتنا.
العلْم وحده فوق الجنسيات والخلفيات الاجتماعية والأعراق والأديان، وقد استطاع أن ينقذنا، والعلم معرفة إنسانية شاملة.
لم نستفد من الدرس كثيراً، وبعد أن ارتفع الحظر الذي حبس البشرية وحدَّ من قدراتها على الحركة، عاد الكثيرون إلى ذات الأزمات والصراعات، أي الأزمات والصراعات التي تفاقمت ولم نعد نقدر أن ندير تأجيلها أكثر من ذلك، لتتفجر أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، ولنكتشف فجأة أن العالَم فعلا قرية صغيرة بكل تشابكاته المعقدة عبر سلاسل التوريد التي توقفت وأصابها الشلل. ولا ندرك حتى اليوم أن فلسفة سلاسل التوريد تعني ببساطة أن ميناءً ما في أقصى آسيا هو حق منفعة لعائلة في أقصى كندا، والعكس صحيح مع كل موانئ العالَم وعائلاته التي تنتظر لقمة العيش.
تفتح لنا السماءُ فضاءاتِها لنتأمل في الاحتمالات والفرص الواسعة، ولنعيد تدبُّر مسيرتنا البشرية ومواردنا التي يمكن أن تكفي الجميعَ بلا نقصان. ويصر الكثير من «ديناصورات الزمن الماضي» على أن يطرقوا الأرض برؤوسهم سعياً لإحداث زلازل وإيجاد كوارث، ولا يفكرون بالإنسان الواحد كيفما كان دينه أو لونه أو معتقده.
تدهشني الإماراتُ، هذه الدولة التي فهمت مبكراً، ومبكراً جداً، معنى الإنسان بكامل تعدده الثقافي والهوياتي، فوضعت سياساتها على أساس التكامل والتعاون والشراكات.. ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
بعد كورونا بقليل، كنتُ في أبوظبي ضمن زيارة عمل، والتقيت أحدهم تحدّث بحكمة يومَها فقال لي: نحن نعمل على الوصول إلى «أزمات صفر». يومها لم أستوعب بدقة ما قاله الرجل واعتبرتُها مناورةً بلاغيةً لا أكثر، واليوم أكتشفُ أن هذا يصلح استراتيجيةً عالمية أو على الأقل إقليمية، لنصل إلى مرحلة «صفر أزمات».
هل من فرصة ما لمؤتمر عالمي إنساني نوعي يكون عنوانه: «صفر أزمات»؟

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا