يتقدم الذكاء الاصطناعي بطريقة يصعب على العقل البشري استيعابها. فلفترة طويلة لا يحدث شيء، ثم فجأة يحدث شيء ما.

وتُعد الثورة الحالية لـ«النماذج اللغوية الكبيرة»، أو الـ«إل إل إم»، مثل «تشات جي بي تي» نتيجة لظهور «الشبكات العصبية» حوالي عام 2017. ماذا سيجلبه نصف العقد المقبل؟ وهل يمكننا الاعتماد على انطباعاتنا الحالية حول هذه الأدوات للحكم على جودتها، أم أنها ستفاجئنا بتطورها؟

كشخصٍ أمضى عدة ساعات في محاولة التعرف على هذه النماذج واستكشافها، أعتقدُ أن الكثير من الناس مقبلون على صدمة. ذلك أن «النماذج اللغوية الكبيرة» ستكون لها تداعيات مهمة على قراراتنا التجارية، ومحافظنا الاستثمارية، وهياكلنا التنظيمية، والسؤال البسيط المتمثل في كم ينبغي لنا كأفراد الاستثمار في تعلّم كيفية استخدامها.

والأكيد أنني لستُ ممن يسقطون في الإثارة والمبالغة حين الحديث عن الذكاء الاصطناعي، إذ لا أعتقد أنه سيؤدي إلى بطالة جماعية، ناهيك عن تحقق سيناريو«سكايْنيت» (نظام ذكاء اصطناعي واعٍ بالعالم الحقيقي ويتصرف بشكل مستقل عن البشر) وما سينتج عنه من دمار للعالم.

ولكنني أعتقدُ أنه سيؤكد أنه ميزة تنافسية دائمة للأشخاص والمؤسسات القادرة على الاستفادة منه. وهنا لديّ قصة لأحكيها لك، عن الشطرنج ومشروع شبكة عصبية يدعى «ألفا زيرو» في شركة «ديب مايند» للذكاء الاصطناعي. فقد أُنشئ «ألفا زيرو» في أواخر 2017. وبشكل شبه فوري، شرع في التدرب عبر لعب مئات الملايين من مباريات الشطرنج ضد نفسه. وبعد حوالي أربع ساعات، كان أحسنَ كيان للعب الشطرنج تم إنشاؤه على الإطلاق.

أما العبرة المستخلصة من هذه القصة، فهي أنه حين تتوافر الظروف المناسبة، يستطيع الذكاء الاصطناعي التحسن بشكل سريع للغاية. «النماذج اللغوية الكبيرة» لا تستطيع أن تضاهي تلك الوتيرة، على اعتبار أنها تتعاطى مع أنظمة أكثر انفتاحاً وأكثر تعقيداً، كما أنها تتطلب استثماراً مستمراً للشركات. ومع ذلك، فإن التقدم الذي تم تحقيقه مؤخراً كان مبهراً. والحق أنني لم أنبهر بـ«جي بي تي 2»، وهو عبارة عن «نماذج لغوية كبيرة» من عام 2019.

ولكن «جي بي تي 3» (2020) نجح في شد اهتمامي. والآن أنا منبهر جداً بـ«تشات جي بي تي»، الذي يدعى «جي بي تي 3.5» أحياناً وصدر أواخر العام الماضي. على أن نسخة «جي بي تي 4» في طريقها للصدور، ربما خلال النصف الأول من هذا العام. وهكذا، انتقلت هذه النماذج، في ظرف بضع سنوات فقط، من كونها أشياء تثير فضول الناس وتغري بالاستكشاف، إلى أن أصبحت جزءاً لا يتجزأ من روتين عمل العديد من الأشخاص الذين أعرفهم. وشخصياً، أعتزمُ تدريس طلابي كيفية كتابة بحثٍ باستخدام «النماذج اللغوية الكبيرة» خلال الفصل الدراسي الحالي. نسخة «تشات جي بي تي»، التي تم إصدارها أواخر العام الماضي، حصلت على علامة «دي» في امتحان «اقتصاديات العمل» لطلاب ما قبل الإجازة أعدّه زميلي بريان كابلان.

و«أنثروبيك»، وهو نموذج «برامج لغوية كبيرة» جديد متوفر في شكل تجريبي ومن المتوقع أن يصدر هذا العام، نجح في امتحان القانون والاقتصاد لمستوى الدراسات العليا، إذ قدّم أجوبة جيدة وواضحة. صحيح أن نتائج «النماذج اللغوية الكبيرة» الحالية ليست مبهرة دائماً. ولكن لنتذكر هذه الأمثلة – ومثال «ألفا زيرو». والواقع أنه ليست لدي أي توقعات بشأن وتيرة التحسن، ولكن معظم المقارنات مع الاقتصاد العادي لا تستقيم.

فالسيارات تتحسن بقدر متواضع كل عام، على غرار معظم الأشياء الأخرى التي أشتريها أو أستخدمها. وبالمقابل، تستطيع «البرامج اللغوية الكبيرة» تحقيق قفزات. ومع ذلك، قد تتساءل: «ماذا تستطيع النماذج اللغوية الكبيرة فعله من أجلي؟». وهنا لدي جوابان فوريان.

أولاً، إنها تستطيع كتابة «كود» البرنامج الحاسوبي. صحيح أنها ترتكب الكثير من الأخطاء، غير أنه كثيراً ما يكون تصحيح تلك الأخطاء وتحريرها أسهل من كتابة «الكود» من البداية من نقطة الصفر. كما أنها تميل إلى أن تكون مفيدة أكثر في كتابة الأجزاء المملة من «الكود»، مما يسمح للمبرمجين البشر بالتفرغ للتجريب والابتكار. ثانياً، يمكنها أن تضطلع بدور المعلم.

فهذه «النماذج اللغوية الكبيرة» موجودة منذ مدة، وستتحسن كثيراً قريباً. وهي تستطيع تقديم أجوبة مثيرة للاهتمام على أسئلة تتعلق بأي شيء تقريباً في العالم البشري أو الطبيعي. صحيح أنه لا يمكن الاعتماد عليها دائماً، ولكنها كثيراً ما تكون مفيدة في الأفكار الجديدة وكمصدر إلهام، وليس في تدقيق الحقائق. ولكنني أتوقعُ أن يتم دمجها مع خدمات تدقيق الحقائق والبحث قريباً.

وفي غضون ذلك، يمكنها تحسين كتابة الملاحظات وتنظيمها. وشخصياً، بدأتُ أقسّم الأشخاص الذين أعرفهم إلى ثلاث فئات: أولئك الذين لم يعرفوا «البرامج اللغوية الكبيرة» بعد، وأولئك الذين يشتكون من «برامجهم اللغوية الكبيرة» الحالية، وأولئك الذين لهم بعض الفهم للمستقبل المذهل الذي أمامنا. ولعل المثير للاهتمام بشأن «البرامج اللغوية الكبيرة» هي أنها لا تخضع لقواعد تطور سلسة ومتواصلة، بل هي أشبه بيرقة ستنمو وتتطور إلى فراشة. والواقع أنه «من البشري» القلق بشأن المستقبل، إذا جاز التعبير. إلا أنه لا بد لنا أيضاً من الاستعداد له!

*أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة جورج مايسون.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيش»