إذا كنتَ تؤمن بمقولة ميلتون فريدمان بأن التضخم، دائماً وفي كل مكان، ظاهرةٌ نقدية، فعليك أيضاً أن تصدّق أن الاحتياطي الاتحادي يمكنه التوقفَ عن زيادة أسعار الفائدة، الآن. ورفع سعر الفائدة المستهدف بسرعة من قريب من الصفر في وقت مبكر من العام الماضي إلى 4.50 بالمئة في ديسمبر الماضي، أمر منطقي، ليس فقط مع ارتفاع التضخم الأساسي فوق ستة بالمئة، ولكن أيضاً مع ارتفاع المعروض النقدي وفقاً لمعيار (إم.2) بنحو ستة تريليونات دولار، أو نحو 41 بالمئة، في وقت أغرقت فيه الحكومةُ الاقتصادَ بالنقد لدعم المستهلكين والشركات أثناء الجائحة. 
لكن بينما ينخفض التضخم ببطء، تباطأ النمو في المعروض النقدي سريعا، ومن المتوقع أن ينخفض إلى ما دون الصفر على أساس سنوي للمرة الأولى منذ عام 1960 على الأقل، وفقا لبيانات مجلس الاحتياطي الاتحادي التي جمعتها بلومبيرج. وربما الأهم من ذلك، أن المقياس الأوسع للمعروض النقدي (إم.2) الذي يتضمن الحسابات الجارية وحسابات التوفير وحسابات سوق المال وشهادات الإيداع قصيرة الأجل بالإضافة إلى الودائع السائلة الأخرى، قد تحول بالفعل إلى مستوى سلبي على أساس سنوي، متراجعا 6.7 بالمئة. وبعبارة أخرى، المعروض النقدي آخذ في الانكماش.
وزيادات الاحتياطي الاتحادي لسعر الفائدة، التي حدثت بوتيرة لم نشهدها منذ أيام بول فولكر في أوائل الثمانينيات، كان لها دورٌ في تقليص المعروض النقدي والمدخرات الزائدة التي تراكمت على المستهلكين أثناء الجائحة. وفي الأساس، كان على المستهلكين الاستفادة من مدخراتهم لتغطية مدفوعات الفائدة المرتفعة على كل شيء بدءاً من الرهون العقارية إلى قروض السيارات وأرصدة بطاقات الائتمان، أو لتجنبها عن طريق الدفع نقداً لسلع باهظة الثمن. وسوق العقارات هو مثال ساطع. فقد تم شراء نحو 30 بالمئة من المنازل التي تم شراؤها في ديسمبر نقداً، وهي أعلى نسبة في ثماني سنوات، وفقاً لشركة أبحاث العقارات «ردفين». 
وتمكن رؤية كل هذا في معدل الادخار، الذي انخفض باطراد، حيث انخفض إلى 2.2 بالمئة في أكتوبر من أكثر من سبعة بالمئة العام السابق، في أدنى مستوى له منذ عام 2005. ويتطابق الانخفاض تماماً مع الانخفاض في المقياس الأوسع نطاقاً لمعيار المعروض النقدي «إم.2» من 13.8 تريليون دولار في مارس إلى 12.6 تريليون دولار في نوفمبر، وهو آخر الشهور التي تتوافر عنها بيانات. وتشير هذه الأنماط في البيانات أيضاً إلى أن الأميركيين من ذوي الدخل المنخفض والطبقة المتوسطة يؤجلون عمليات الشراء الرئيسية لتجنّب دفع الفائدة المرتفعة إلى أرصدة حساباتهم الجارية، بينما يحافظ الأكثر ثراء على استمرار الاقتصاد بعمليات الشراء النقدية. وتمكن رؤية بعض من هذا في تقرير مبيعات التجزئة لشهر ديسمبر من وزارة التجارة في الأيام القليلة الماضية؛ فقد أظهر أن المشتريات بين مجموعة ضابطة من المستهلكين تراجعت 0.7 بالمئة الشهر الماضي، في أكبر نسبة منذ ديسمبر 2021 وأكثر من ضعف الانخفاض البالغ 0.3 بالمئة الذي توقعه الاقتصاديون الذين استطلعت «بلومبيرج» آراءَهم. 
وتعتبر نتائج المجموعة الضابطة مهمة لأنها تغذي مباشرةً حسابات الإنتاج المحلي الإجمالي. والشيء الآخر الذي تجب مراعاته هو أنه إذا بدأ الإنفاق الاستهلاكي الذي يمثّل حوالي ثلثي الاقتصاد، في التراجع، فيجب أن يساعد في احتواء أو حتى خفض التضخم. وهنا يأتي كل هؤلاء المشترين النقديين للعقارات. ومن المرجّح أن يكون هؤلاء المشترون من أصحاب العقارات، مما يخلق مزيداً من المعروض في أسواق الإيجارات التي تضعف بسرعة. وتقدّر شركة «ريالبيدج اناليتكس» أن الطلب على الشقق أصبح سلبياً في الربع الأخير من عام 2022، للمرة الأولى منذ عام 2009. وتقول قائمة الشقق إن الإيجارات انخفضت على المستوى الوطني كل شهر في الربع الرابع، مما يعزز اتجاه تقلص التضخم في الآونة الأخيرة الذي شهدناه على نحو واسع في الآونة الأخيرة. 
وكل هذا له آثار كبيرة على السياسة النقدية. فقد أوضح الاحتياطيُ الاتحاديُ أنه على استعداد لزيادة البطالة في محاولة لتهدئة الإنفاق الاستهلاكي وإنهاء أسوأ نوبة تضخم شهدتها الولايات المتحدة منذ أربعة عقود. لكن التباطؤ في الإنفاق الاستهلاكي وتخفيف التضخم يحدث مع سوق عمل وافر الفرص، مما أبقى معدلَ البطالة عند أدنى مستوى له منذ 50 عاماً، وتحديداً عند 3.5 بالمئة، الأمر الذي يزيد من احتمالات ما يسمى بالهبوط الناعم للاقتصاد وتجنب ركود اقتصادي. وبعبارة أخرى، بدأت أحدث البيانات تشير إلى أن الاقتصاد قد لا يتطلب مثل هذا الضبط الدقيق من الاحتياطي الاتحادي على كل حال. ولذا، فصانعو السياسة لديهم مجال واسع لتجنب رفع سعر الفائدة حين يجتمعون في الأيام القليلة المقبلة والسماح ببيانات إضافية إما لتأكيد أو رفض الفرضية القائلة بأن المعروض النقدي والاقتصاد الأوسع في حالة توازن تقريباً مرة أخرى. وأشار جيمس بولارد، رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي في سانت لويس، قبل بضعة أسابيع، إلى أنه قد يكون مستعداً لمثل هذه المقاربة. 
وأشار بولارد إلى أن معيار المعروض النقدي (إم2) قدَّم إشارةً قويةً خلال الجائحة بأن التضخم الأسرع كان في طريقه ويجب على الاحتياطي الاتحادي أن يأخذ في الاعتبار أن مقياس المعروض النقدي (النقود) ينخفض الآن. وليس من الواضح مدى حاجة الاحتياطي الاتحادي لأن يكون ذلك تقييداً. بل يحتاج ببساطة إلى دعم التوجهات التي تترسخ بالفعل، وهذا يعني التوقف عن زيادة سعر الفائدة، على الأقل في الوقت الحالي. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيت»