واقع جديد تشهده الحكومة الإسرائيلية، خاصة مع استمرار حالة التظاهرات في شوارع إسرائيل، ودخول شرائح جديدة على خطها مثل عمال الشركات الكبرى والمصانع، وبعض النقابات وبعض الشخصيات العسكرية والسياسية السابقة، احتجاجاً على مشروع تعديل حكومي للنظام القضائي، معتبرين أن الإجراءات الراهنة المقترحة ستمس استقلال القضاء، والقضاة الذين تختارهم لجنة مشتركة من القضاة والمحامين والنواب بإشراف وزارة العدل، وعلى صلاحيات المحكمة العليا التي قد تقضي بإلغاء قوانين يقرها الكنيست إذا اعتبرها تمس القوانين الأساسية للدولة.
يشير الواقع إلى أن الحكومة الحالية ليست حكومة ضعيفة، وإنما هي حكومة متماسكة وقوية وقادرة على فرض الأمن والاستقرار، وأن ما يجري مرتبط بموقف محدد، وهو صراع مستمر بين السلطات التنفيذية من جانب والقضائية من جانب آخر.
ولا يخلو المشهد من بعض الخلفيات السياسية في ظل استمرار محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وعدد من كبار المسؤولين، ومنه الوزير درعي الذي قدم استقالته، وينتظر الاستشكال القضائي للعودة، وفي ظل صراع حزبي، وسياسي متربص بسلطة المحكمة العليا التي ما زال عدد من مستشاريها يعمل في اتجاه سياسي بشهادة بعض المسؤولين، وهو ما قد يضعف موقف المحكمة إذا خضع الأمر لمراجعات ستتم في الكنيست، وفي ظل هيمنة اليمين المتطرف على مقاليده مما قد يمرر أي تشريع بصرف النظر عما يجري من تظاهرات دورية تتزايد بصورة كبيرة، وتماسك الحكومة قادر في النهاية على الصمود في مواجهة أي تحرك شعبي.
وقد سبق أن شهدت إسرائيل أحداثاً مشابهة، ولعل التظاهرات الكبرى التي جرت عام 2012، وبلغ عدد المشاركين فيها أكثر من 450 ألفاً، وطالبت بعض شعاراتها بإسقاط النظام السياسي كله، وليس القضاء، وتعامل معها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بحرفية ومهنية لافتة، حيث شكل وقتها لجنة قومية لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وحل الأزمات المؤجلة مع الإعلان عن إجراءات تحفيزية كاملة أدت في النهاية إلى استقرار الداخل، وفرض المناعة الوطنية، وربما في تقدير نتنياهو الراهن أنه سيعمل انطلاقاً من الإقليم في إطار تصويب مسار العمل بالاتجاه لبناء شراكات جديدة مع دول الجوار، وتثبيت حالة الهدنة مع الاستمرار في إطلاق التحذيرات لحركة «حماس» و«الجهاد» و«حزب الله»، خاصة وأنه يدرك أن معركة تكسير العظام التي يخوضها لا تقتصر فقط على شخصه بل مع العديد من المسؤولين الإسرائيليين الذي يحاكمون، وبهدف وقف تدخل القضاء في السياسة.
وقد سعي وزير العدل ياريف ليفين لمنح الكنيست مزيداً من الصلاحيات في تعيين القضاة ليستمر الجدال، ومن بين المقترحات بند الاستثناء الذي يتيح لنواب الكنيست بأغلبية بسيطة إلغاء قرار صادر من المحكمة العليا، فإنه من المتوقع أن تمضي الحكومة في مسارها، ولن تتراجع في ظل مخطط يميني لافت في الكنيست سيتم طرحه، والتصويت عليه بصرف النظر عن استمرار حالة التظاهرات الراهنة، خاصة أن المحكمة العليا بدأت في طرح خيارات وحلول جراء ما يطرح على الجانب الآخر، وتبني خطاب سياسي، وليس إعلامي وهو ما برز في خطاب رئيسة المحكمة نفسها «ايستر حايوت»، والتي اعتبرت ما يجري سحقاً كاملاً للقضاء وليس مجرد تشريعات مطروحة، الأمر الذي يشير إلى أن المعركة قد تطول مما سيعرض النظام السياسي الإسرائيلي بأكمله لخطر داهم لم يسبق لإسرائيل التعرض له.

إسرائيل تتأهب بالفعل لخيارات متعددة، خاصة أن كل محاولات إصلاح بنية النظام السياسي ومؤسساته لم تتم، ولم تتغير، فقد سبق وأن شكلت لجنة وطنية لكتابة الدستور وخرجت بتوصيات لم تعلن، وتم تأجيل بنودها لأجل غير مسمي، كما سبق أن تم إعداد تصور استشرافي لتغيير نظام الانتخاب، ومراجعة أسس النظام التشريعي أيضاً ولم تفعل.
مجمل القول إن هذه الحكومة قوية ورئيس الوزراء الإسرائيلي قادر على الاستمرار، بل وسيعمل في مسارات عدة، ويملك من الخيارات الكثير، وهو ما تدركه المعارضة الرسمية في الكنيست، والتي ليس لديها بدائل كثيرة، ورغم أن الولايات المتحدة في قلب ما يجري إسرائيلياً، وتحاول الوصول إلى حلول وسط، والعمل انطلاقاً من دائرة محددة بعدم الاستمرار في المشهد الراهن الذي سيضر بموقف، وبصورة إسرائيل كدولة وليس بالحكومة، إلا أن هذا الأمر يجب أن يفهم في سياق محدد وفي ظل ما يجري. فالشارع الإسرائيلي سيظل محتقناً، ولكن سيبقى الأمر في مجمله مرتبطاً بصراع على السلطة، وليس متعلقاً بمطالب حقيقية تمس استقرار المجتمع.
* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية