وصل عدد ضحايا الزلزال التركي أربعين ألف شخص، مما يشكل فاجعة غير مسبوقة في العصور الحاضرة، من المؤكد أن آثارها ستكون حاسمة وعميقة في المنطقة كلها، وفي مقدمتها سوريا التي عرفت المأساة ذاتها.

ولا شك في أن وقْع الزلزال التركي يذكر بزلزال مماثل وقع في لشبونة بالبرتغال عام 1755 وخلَّف أوانها ما بين 50 ألفاً و60 ألف قتيل، وخلّده التقليد الفلسفي بنصوص محورية لفولتير وروسو وكانط أعادت تناول سؤال الشر المحوري في التقليد اللاهوتي.

لقد بلور الفيلسوف الألماني لايبنتز تمييزاً شهيراً بين الشر الميتافيزيقي المرتبط بقصور الإنسان الوجودي من حيث طبيعته وقواه النفسية الدافعة، والشر الأخلاقي المتصل بأفعال الإرادة الحرة، والشر الطبيعي الذي يتلقاه الإنسان من الخارج ولا دخل له فيه مثل الكوارث والأوبئة والزلازل.

وإذا كان لايبنتز قد خلص في فلسفته الأخلاقية إلى تصور متفائل لمصير الإنسان، بالنظر إلى الشر من حيث هو حالة محدودة ونسبية بالمقارنة مع أفضلية وخيرية العالم في مقوماته الجوهرية الكلية، فإن الفكر الفلسفي بعد زلزال لشبونة تخلّى عن هذه المقاربة الموغلة في التفاؤل، والتي كانت موضوع نقد ساخر عنيف في رواية فولتير المعروفة «كنديد» (أي الساذج باللغة الفرنسية القديمة).

وكان روسو أول من فسّر الشر الطبيعي بالمسؤولية الإنسانية، مبيناً أن فظائع الكوارث سببها الحقيقي هو قصور الإنسان في تحمل أمانة تسيير الكون ومواجهة التحديات الطبيعية التي تواجهه. أما كانط الذي حاول تقديم تفسير فيزيائي لظاهرة الزلازل (من خلال حركية الماء في المحيطات)، وهو تفسير زائف علمياً، فإنه طرح إشكالية «الشر الجذري» الملازم لوضعية الإنسان من حيث مقوماته الوجودية وإرادته الحرة، بحيث لا يمكن النظر إليه كحالة عارضة، بل نقطة ارتكاز ثابتة في الوضع البشري. ما نستنتجه من هذه التوجهات النظرية الجديدة، هو الانتقال من سؤال الجبرية اللاهوتية التي لم تستطع تقديم تفسير عقلاني للشر الميتافيزيقي (من منظور عقيدة الخطيئة الأصلية) أو الشر الطبيعي الذي يبدو حالة مفروضة من الخارج ولا إرادة للإنسان فيه. إن هذا التحول النظري هو الذي أفضي إلى ما سماه بول ريكور «متاهات الشر»، أي عدم القدرة على تفسيره عقلانياً، ومن ثم اللجوء إلى الرموز الثقافية الكبرى في معالجته، مع مسؤولية مواجهته أخلاقياً.

ومع أن الخطاب العلمي التقني المعاصر راهن لمدة طويلة على قدرة الإنسان على التغلب على الكوارث الطبيعية والشرور الخارجية، من خلال الإبداع والاكتشاف، فإن الحروب العالمية المدمرة في القرن العشرين والكوارث التي انجرت عن الصناعات الكيميائية والنووية أعادت سؤال الشر الأخلاقي ومسؤولية الإنسان إلى الواجهة.

وفي هذا الباب يتهكم الفيلسوف والمهندس «بول فرليو» قائلاً إن الخوارق التوراتية الكبرى تعود بقوة مع بداية القرن الحادي والعشرين: سقوط بابل من خلال انهيار برجي نيويورك، والطوفان مع موجة تسونامي سنة 2004، والتيه العبراني مع حركية الهجرة الشاسعة التي تجتاح العالَم راهناً! ومع الزلزال التركي السوري يتجدد سؤال الشر الطبيعي ومسؤولية الإنسان فيه، من منظور أخلاقية المسؤولية التي تحولت إلى مطلب حيوي في التعامل مع نتائج التقنيات الجديدة التي بقدر ما أزاحت عن كاهل البشرية مصاعب جمة ولّدت تحديات خطيرة غير مسبوقة.

وبغض النظر عن الجدل المعروف حول الأسباب الموضوعية للزلازل، يبدو من الواضح أن اختلالات التوازنات البيئية المتولدة عن الحركة العمرانية والتكنولوجيا الصناعية مسؤولة إلى حد بعيد عن الكوارث الطبيعية الحالية. وهكذا برزت أطروحات فلسفية واجتماعية جديدة تدعو إلى مراجعة نظام الفصل بين الطبيعة والثقافة، والذي قامت عليه الحداثة، وما ترتب على هذا الفصل من وهم بناء العلم القادر على امتلاك الطبيعة والسيادة عليها حسب عبارة ديكارت الشهيرة.

ومن هذا المنظور، تبلورت فكرة «حقوق الطبيعة» التي أصبحت مقننة في عدة دساتير وطنية واتفاقيات دولية، وتعني تمديد قيم الكرامة والرعاية إلى الكائنات الطبيعية، لما يترتب على إنكارها من مخاطر على الوجود البشري نفسه. الإشكال المطروح هنا يتعلق بنمط التضامن والعيش في الأرض بين الأحياء، وبينها الكائنات الطبيعية، بما عبّرت عنه مقولةُ «ديمقراطية الأحياء» التي بلورها الفيلسوف الكاميروني «أشيل مبمبة».

وتعني هذه العبارة أن البشر ليسوا هم ساكنو الأرض الأوحدون، ولا يحق لهم أن يمارسوا عليها سيادةً أحاديةً مطلقةً. ومن هنا ضرورة الانتقال إلى ميثاق طبيعي شامل يكون موضوعه الوجود الحيوي المشترك الذي ينقذ الإنسانَ بصيانة وحماية الطبيعة.

*أكاديمي موريتاني