تمثل الأنظمة الثيوقراطية جزءاً من تاريخ الأنظمة السياسية في عالمنا، ورغم التطور الذي شهده مفهوم الدولة الحديثة، فإن بعض الدول لا تزال محكومة بهذا النوع، بينما تتطلع مجموعات دينية مختلفة للوصول إلى الحكم في بلدان عدة، كما كان حال «داعش» في أجزاء من العراق وسوريا.

ويتمتع رجال الدين في النظام الثيوقراطي بنفوذ يسمح لهم بالتدخل في شؤون المجتمع وفرض القوانين باستخدام النصوص الدينية لترهيب المجتمع وحكمه من منظور يرفع في وجوه المخالفين النصوصَ المقدسةَ، ومَن يخالف هذه الأنظمة أو يعارضها تتهمه بالكفر والزندقة والعمالة.

الغريب أن هذه الأنظمة لم تنقرض بصورة نهائية رغم التطور الثقافي والتكنولوجي، ورغم استهلاك شعوبها لمنتجات الحداثة، ومع ذلك تضطر بعض الشعوب إلى التكيف مع الأنظمة الدينية إلى أن تعثر على فرصة للخلاص منها، وغالباً ما يصيبها تفككٌ من الداخل عندما تضعف أجهزتُها الأمنية والعسكرية، كما حدث لـ «داعش» في مناطق من العراق وسوريا، حيث واجه تحالفاً دولياً صارماً. ومن مؤشرات استمرار الأنظمة الثيوقراطية ما يجري في أفغانستان حالياً بعد أن بسطت حركة «طالبان» نفوذَها، حيث ظهرت مشاهدُ فرار عدد كبير من الأفغان ومحاولتهم صعود الطائرات وتساقط بعضهم ممن تعلقوا بهذه الطائرات في محاولة يائسة للهرب من العيش في ظل دولة دينية.

ولا ننسى أن سوريا التي عاثت فيها الجماعات المسلحة فساداً شهدت هجرة ثمانية ملايين من السوريين بحثاً عن الأمان. وكانت عودة «طالبان» مؤشراً على إمكانية عودة الأنظمة الدينية التي تضع المجتمعات أمام الأمر الواقع وتفرض أجندتها، بل تريد من المجتمع الدولي أن يدعمها! ونظرياً، لا مستقبل للأنظمة الثيوقراطية التي تريد أن تحكم على غرار «داعش» في الرقة والموصل أو «الحوثيين» في الشطر الشمالي من اليمن، وغيرهما من الجماعات التي تطمح لتحويل بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان إلى دول ذات أنظمة دينية ثيوقراطية.

وإلى ذلك، لا يزال الواقع يخبرنا بأن النظام الثيوقراطي يتنفس في أكثر من بلد، ومن المؤكد أن حالة الركود السياسي واستمرار بعض الملفات الساخنة ينذر بمخاطر نشوء دويلات دينية، كما يحدث في اليمن، حيث يحاول الحوثيون هناك بناء نظام ديني متطرف يعتمد على شعارات الإسلام السياسي الشيعي. وما يشجع الحوثيين على التخطيط لبناء نظام ديني أن اليمن تاريخياً كان محكوماً لبعض الوقت بأنظمة ثيوقراطية، كان الإمام يحتل فيها موقع الرأس الحاكم، ولم تشهد ولادة نظام سياسي حديث نسبياً إلا بعد انتهاء حكم الإمامة الزيدية في صنعاء منتصف عام 1962. وإذا لم يتم التوصل إلى حل فإن الحوثيين يرتبون لإقامة دولتهم الثيوقراطية، وكل المؤشرات هناك تتحدث عن التمهيد لقيام نظام ينتمي إلى القرون الوسطى.

ولا أحد ينكر أن الأنظمة الثيوقراطية تسترت وراء الأديان، إلا أن النسخَ المتبقيةَ منها اليوم تقوم على الإسلام السياسي بشكله الأحدث الذي يتمثل في التنظيمات الإخوانية والشيعية، وكان نظام «داعش» مرشحاً للبقاء لفترة أطول، لكنه سقط لأنه كان الأكثر وحشيةً وتخلفاً ودمويةً، وربما استفادت «طالبان» من هذا الدرس وحاولت فرض سلطتها على المجتمع الأفغاني بالترهيب، مقابل توددها إلى المجتمع الدولي سعياً للحصول على مساعدات.

ومن أبرز الأسباب التي تساهم في ظهور مثل هذه الأنظمة في العصر الحديث، أن البعض ما زال يتعامل مع الخطاب الديني بالكثير من العاطفة بعيداً عن العقلانية وعن التفكير في عواقب القبول بتسييس الدين، وهذا ما يجب أن تتنبه له الشعوب لتحمي نفسَها من عودة أنظمة القرون الوسطى.

*كاتب إماراتي