في كتابه الصادر هذه الأيام بعنوان «المجموعة الأرضية»، يدعو الفيلسوف الكاميروني أشيل مبمبة إلى نمط جديد من وحدة الكائنات الحية لمواجهة ما يعتبره التهديد الجذري للحياة المشتركة على الكوكب.

وينطلق مبمبة من مظاهر مقلقة على مصير الكائنات الحية المتساكنة على الأرض، مثل عودة الحروب الماحقة، وتزايد تأثير التقنيات الجينية والذكاء الاصطناعي التي أصبحت محور الرأسمالية الجديدة، وتزايد الكوارث الطبيعية والمناخية في مختلف أصقاع المعمورة. ولئن بدت هذه الظواهر متمايزةً ومنفصلةً عن بعضها البعض، إلا أنها تتداخل في العمق، في مرحلة تتزايد الأسوار والجدران بين بني البشرية باسم الهويات الخصوصية وحقوق الاختلاف والتمايز.

ومن الواضح أن مبمبة يستعير مقولة «السلطة الحيوية» من قاموس ميشال فوكو وجورجيو أغامبن، وإن كانت جذورها البعيدة تعود إلى هيغل في نقده لفكر التنوير في جوانبه الأداتية والصورية. لقد ظهر مفهوم «التفكير في الحياة» في أعمال الشباب لدى هيغل في تأثر صريح بالنزعة الرومانسية الأوروبية التي وقفت ضد الاختزال الوضعي التقني للعقل وضد فكرة القانون الاصطناعي بصفته أساس الرابطة المدنية المشتركة. ولقد اكتسب هذا المفهوم لدى هيغل دلالةً قوية في تصوره للعقل والدولة في سياق التدفق الحيوي للمطلق التاريخي.

ومع أن الأدبيات الوجودية، لدى هايدغر وسارتر خصوصاً، احتفت بالموت والعدم من حيث هما أساس كينونة الإنسان ونمط علاقته بالوجود، إلا أن الفكر الحيوي استمر لدى فلاسفة بارزين مثل حنة أرندت وبرغسون في تركيزهما على تجارب الولادة والبدء والديمومة. بيد أن الحياة المقصودة هنا هي الأفق الإنساني المفتوح، وليس نمط السلطة المتعلق بتسيير وضبط الحياة في سياقات القانون والدولة والعلوم في المجتمعات الحديثة.

لقد تبلور مفهوم «السلطة الحيوية» biopouvoir لدى الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في أعماله في السبعينيات، والتي تناول فيها أنظمة الرقابة والعقوبة في الغرب الحديث، مبيناً أن هذه الأنظمة قد انتقلت تدريجياً من قوة الردع إلى ضبط الأجساد وترويضها، ومن السيطرة على الأرض إلى التحكم في الرغبات الحيوية للسكان من خلال ظواهر عديدة، يتعلق بعضها بنظام العمل في الرأسمالية الاقتصادية، في حين يتعلق البعض الآخر بالقوانين الجنائية والمؤسسة الطبية.

بيد أن ما اعتبره فوكو تحولاً في نظام السلطة والرقابة في الغرب الحديث، نظر إليه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن من حيث هو السمة المحددة للعقل السياسي الغربي منذ العصر الروماني في تركيزه على ضبط الحياة «العارية» مجالاً للسيادة القانونية، بحيث يصبح نمط عيش الإنسان الفردي مادة للتقنين الشمولي والضبط التفصيلي وليس الجوانب السياسية والمدنية وحدها. وما خلص إليه أغامبن هو أن محور العقل السياسي الغربي هو «المعسكر المغلق» وليس المدينة المفتوحة، بما يعني أن فكرة السيادة ذاتها لا تمنح الإنسان الفاعلية إلا من حيث تفرض عليه التنازل عن حريته الذاتية المطلقة.

لقد ذكرنا بهذه الاعتبارات الفلسفية لأهميتها البالغة في ضبط مفهوم «العالم المشترك» الذي ينادي به في أيامنا عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين، لمواجهة اختلالات ثلاث خطيرة في الحالة الإنسانية المعولمة، وهي: ضمور وانحسار المجال العمومي الذي قامت عليه الدولة الليبرالية الحديثة مما يقلص نجاعة النظام الديمقراطي، انهيار الرابطة الأصلية بين الديناميكية التقنية والقيم الإنسانية والتنويرية مما يضع لأول مرة الحركيةَ التكنولوجية خارج نطاق أي تحكم بشري ممكن، عودة العنف ومنطق الحرب والمواجهة إلى العالم في مرحلة انهارت فيها كلياً القسمةُ التقليدية بين المدني والمحارب وبين مسرح القتال وفضاء الاجتماع المدني الكثيف.

والسؤال المطروح هنا هو: كيف نعيد بناء «المشترك» في الوضع الراهن للبشرية؟ لا يبدو أن الآليات السابقة من دولة مدنية ومنظومة علاقات دولية ومدونة قوانين وحقوق وشبكات مجتمع مدني.. قادرة على إنقاذ مفهوم المشترك في مواجهة أنماط جديدة من الفردية الانكفائية ومن الضبط الإلكتروني الشامل وتصاعد الهويات الضيقة العنيفة.

ما يتبناه مبمبة وآخرون هو إعادة بناء فكرة المشترك على أساس دمج كل الكائنات الحية في منظومة العيش الجماعي، وفق قواعد وآليات إجرائية جديدة، تفرض تصورات مغايرة للسيادة والإقليم والبنيات السياسية، وتفرض نمطاً من العودة إلى تداخل واشتباك الأجسام الحية وتفاعلها العميق مع الطبيعة وفق ما تعتمده كل الثقافات غير الغربية.

خلاصة الأمر هي الدعوة لإعادة بناء فكرة الكونية الإنسانية على أساس الرابطة الكوكبية الحية التي هي اليوم أفق التفكير الفلسفي الراهن.

*أكاديمي موريتاني