هناك تغير ملحوظ في النظام العالمي، وقوى جديدة ستظهر وتتراجع غيرها، والتحالفات أيضاً ستتغير، وإقليم الشرق الأوسط عملياً يتغير.. والعالم يعيش هذا التغير ويشعر به يومياً.
لنتفق أولاً على ما لم يعد يمكن إنكاره، وهو أن العالَم الذي عرفناه قبل ثورة «تكنولوجيا المعلومات» قد تغير تماماً. والعلاقات الدولية التي تأسست في ذلك العالم كانت ضمن سياقاته وظروفه ومعطياته، وهي سياقات وظروف ومعطيات تبدَّلت مع تبدُّل ذلك العالم، ما يعني بالضرورة والتراتب المنطقي انتهاء فاعلية «منظومة العلاقات الدولية» القديمة، وتفككها، لإعادة تركيب منظومة جديدة متسقة مع العالم والراهن.
ومن المعطيات التي شهدت كذلك تغييراً أحدث بدوره حزمةَ تغييرات جوهرية، مصادر الطاقة، والتي ترافقت مع ثورة تكنولوجيا المعلومات، فالعالَم اليومَ يتحول تدريجياً من الاتكال على النفط إلى مصادر طاقة بديلة وصديقة للبيئة ومتوافرة بكثرة، ومراقبة الغاز الطبيعي بحقوله ومناطق تنقيبه أحدثت زلازل بهزات ارتدادية في عالم التحالفات الدولية وعلاقات الدول بين بعضها البعض. وفي إقليم الشرق الأوسط ومنطقة شرق المتوسط، كان النفط كمصدر للطاقة يتحكم في مصائر الأمم والشعوب، واليوم صار الغاز المتوافر شرق حوض المتوسط عنوان العلاقات التي تتشكل بغرائبية لا يفسرها إلا الغاز، ولا يجعلها منطقيةً إلا التحالفات القائمة على المشاركة والتعاون.
المشاركة والتعاون عبارتان ليستا سهلتين في شرق المتوسط، فالجيران على ذلك الطرف من الساحل الطويل ليسوا على وفاق أبداً، ويحملون من العالم الذي تفكك إرثاً من الخلافات التي لم تجد حلولاً حاسمة حتى الآن.
لكن الغاز «الوفير جداً» تحت البحر، لا يعرف فضيلة الصبر والانتظار. هو بطبيعته «غاز» قابل للتلاشي بعد وقت ليس ببعيد.
شرق المتوسط الذي فيه تركيا واليونان وقبرص وإيطاليا، نزولاً نحو الساحل إلى لبنان وسوريا وإسرائيل، لينتهي الخط الساحلي عند غزة، ثم مصر فليبيا، هو الأكثر حظاً بوفرة الغاز على عتباته البحرية، حسب التوقعات. وإذا كان هناك من يعلم أين ينتهي بحر الغاز تحت المتوسط فهو الشركات العملاقة وحدها. 
العلاقات الدولية التي تتغير اليوم، ليست فكرة ضيقة محصورة بسفارات وتبادل دبلوماسي، ولا هي تحالفات إقليمية مزاجية أو مصلحية براغماتية.. التغير في العلاقات الدولية يتطلب إعادة نظر في كل أسس المنظومة السابقة، وهذا يشمل القوانين الدولية التي تنظم الحدود البحرية وقوانين أعالي البحار. تلك ضرورة حيوية اليوم تؤسس لشكل العالَم في الغد، وربما شكل الحروب فيه إن لم يتصرف العالم بحكمة الآن.
المعطيات كلها تفضي إلى ضرورة تغيير المعادلات السابقة، ولملمة شرق المتوسط ضمن منظومة تعاون لا يمكن أن تعيش من دون تسويات ترضي الجميع بلا استثناء، والتنمية الإقليمية هي مفتاح أبواب المرحلة القادمة، ولك أن تتخيل كيف يمكن أن تصبح غزة، الأكثر فقراً وبؤساً في العالم، ثرية بالغاز الطبيعي، وكيف يمكن لمصر أن تستفيد من إضاءة شوارع اليونان بطموح أوروبي يجعل أوروبا حرة من الارتهان لأحادية مصادر الطاقة.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا