على الرغم من توقف التظاهرات في الشوارع الإسرائيلية تدريجياً احتجاجاً على إجراءات حكومة نتنياهو في التعامل مع القضاء، ونجاحه في تمرير قانون القضاء في قراءاته أولي بالكنيست، إلا أن الواقع الجاري في إسرائيل لا علاقة له بالقضاء، والمحكمة العليا وصلاحياتها ومهامها فقط، بل برغبة مؤسسات الدول الكبيرة، وأجهزة معلوماتها في تحجيم صلاحيات نتنياهو، وتوغله على مقاليد الدولة بأكملها، وما معركته مع القضاء سوى مدخل لما هو آتٍ، حيث تتسع شريحة المعارضة الإسرائيلية، لتمتد لرجال مال وأعمال وعسكريين سابقين والمجتمع الديني والعلمي والعسكري في سابقة لم تحدث في تاريخ الدولة، الأمر الذي يكشف وبعمق عن حجم ما تواجهه إسرائيل من حالة عدم استقرار تحتاج إلى مراجعة حقيقية في الداخل الإسرائيلي، وليس القبول أو الرفض لما هو جارٍ.
وقد امتدت المعارضة إلى خارج إسرائيل، وبدأت تحشد حضورها في المنظمات اليهودية، خاصة في الولايات المتحدة، حيث دوائر التأثير الكبرى، والتي باتت تعلن نفسها، والمعنى أن عدم استقرار إسرائيل سيكون مناخاً عاماً، وليس مجرد خلافات حول صلاحيات رئيس الوزراء نتنياهو، أو أي رئيس وزراء آخر، خاصة أن المحكمة العليا في مقدروها إعلان نتنياهو شخصاً غير جدير بموقعه، وهو ما قد يؤدي لنتائج سلبية قد تطيح بنتنياهو الذي ما زال يحاكم بتهم متعددة، ويحاول إطالة أمد المحاكمات لأطول وقت معين لعدم الدخول في متاهات سياسية حقيقية، خاصة أن المعارضة الإسرائيلية، ممثلة في حزبي «يوجد مستقبل» و«المعسكر الوطني»، لا تملك القدرة على مواجهة نتنياهو، وليس لها خبرات في اتباع استراتيجيات تكتيكية رغم دعم الرئيس الإسرائيلي هيرتسوغ، والذي تجاوز صلاحياته للتوصل لخيارات توافقية لم تحدث لاعتبارات متعلقة بمخطط نتنياهو ومكونات الائتلاف، والتي لا تزال ترى في المحكمة العليا الشر الأكبر.
يري اليمين الإسرائيلي أن هذه المحكمة هي من فرضت الخدمة العسكرية على أبناء الطائفة الدينية، وأنها قيدت حركتهم سياسياً، وهمشت تأثيرهم الكبير في المعاهد الدينية التي تخضع لسيطرتهم، ويتعاملون معها من منطق التوجيه، فجاءت قرارات المحكمة العليا في الأعوام الأخيرة لتحد من سيطرتهم على المؤسسة الدينية.
ليس فقط الأحزاب الدينية، بل الأمر يمتد إلى بقية أحزاب «اليمين» ورفاق نتنياهو في الائتلاف، والذين يرون أن المحكمة العليا تقف في مواجهة ما يجري من مساعٍ لتنفيذ الإجراءات في الضفة الغربية، ومحاولة كسب الوقت لإجراء تغييرات في الأراضي المحتلة، خاصة في القدس، ولعل التسريع بمخطط الاستيطان يؤكد هذا الأمر، بل والرهانات الكبرى على التنصل من كل الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الفلسطيني، بما في ذلك اتفاقيتا أوسلو وباريس.
ستستمر الأوضاع في إسرائيل غير مستقرة، إذ إن ما سيجري من تطورات سياسية عاصفة سيرتبط أيضاً بما هو قادم من سن تشريعات عاجلة في مجال الإعلام والاتصال والمجمعات العلمية والثقافية والفكرية، وهؤلاء هم من كانوا موجودين في التظاهرات السبع الكبرى التي شهدتها إسرائيل مؤخراً، ولا تزال مرشحة للتزايد في حال الاستمرار في مخطط التصعيد من قبل الطرفين، وتصميم وزراء الائتلاف الحاكم خاصة «بن غفير» أو «سيموتريتش» على التعجيل بتنفيذ مخططهما وفقاً لخريطة الاتفاق التي عبر عنها اتفاق الشراكة مع حزب «ليكود»، والذي سينفذ تدريجياً، كما هو واضح، ويحاول رئيس الوزراء نتنياهو تأخير هذا الأمر، ولو لبعض الوقت لحين التوصل لصيغة توافقية، أو صفقة حقيقية، حيث سيحاول عرقلة محاكمته، أو على الأقل تأخير توجيه الحكم لأطول مدة معينة على أن يمضي في سياق العمل مع مكونات الائتلاف واضعاً في تقديراته العمل مع البديل، وإعادة تشكيل الحكومة في وقت لاحق، وإعادة تعويم دورها داخلياً وإقليمياً، ودولياً بعد أن يتحرر من كل القيود المفروضة عليه، وهو ما تدركه أحزاب الائتلاف، والتي تعمل على التعجيل بتنفيذ مخططها، ما يؤكد قوتها الحزبية بالفعل في ظل خيارات محدودة لا يملكها رئيس الوزراء نتنياهو بالفعل في الوقت الراهن.
نتنياهو لن يستطيع العمل في اتجاه الخارج، أو الذهاب لعمل خارجي مثل توجيه ضربة لإيران في ظل الداخل المنقسم، وعدم وجود خبرات حزبية حقيقية لمكونات الائتلاف الحالي، والتي تنظر لمصالحها الضيقة فقط، ومن ثم فإن الفرص المتاحة لنتنياهو محدودة بالفعل، وفي المقابل فإن فرص التصعيد أمام المجتمع بكل شرائحه قائمة، وستزيد، مما سيؤدي لحالة عدم استقرار عام في إسرائيل.
* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية