طرح سياسي لبناني ووزير سابق على قناة لبنانية منذ أيام سؤاله التالي: ماذا استفاد لبنان من ديمقراطية نحرتها الديون، ودولة لم تستطع تأمين الصرف الصحي ولا الكهرباء، ولم تنتخب رئيساً لها، والقضاء منتهك، وبلا مصارف ولا بنوك، ولم تنتشل النفايات من الشوارع؟! سؤال متأخر ولكنه ضروري. ماذا نريد من الديمقراطية؟! 
قلت مراراً إن الديمقراطية سؤال يتجدّد مع احتكاكها بالمجتمع، بين من يرى فيها مقدمةً لنتائج، ورؤية أخرى ترى في الديمقراطية «نتيجة لمقدمات». 
إنه خلاف فلسفي متجدد بمستوى تجدد أسئلة الديمقراطية التي تتعرض لتعديلات واشتراطات وإبداء وإعادة، حتى في الدول التي بلغت الذروة في تطبيقها.

براتراند راسل يقول: «إن الديمقراطية تكاد تكون مستحيلة التطبيق في شعب جاهل، وهي ترتبط بالتعليم والثقافة». كارل بوبر جاء بعد هيغل، وهو من أشرس نقاد فلسفة هيغل وفي أطروحته حول «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، ربط بين الديمقراطية ومستوى تحضر الشعب بحيث يصل إلى حال احتياج للنظام الديمقراطي، فالثقافة الديمقراطية لدى بوبر تسبق تطبيق الديمقراطية الآلي. 

أما الفيلسوف الألماني هيغل فهو نقيض رؤية بوبر وراسل، يكتب: «إن الشعوب ليست قاصرة ولم تكن قاصرة في أية مرحلة من المراحل على الإطلاق». يستمر هيغل: «إن تطبيق الديمقراطية بين شعب تغلب عليه الأمية ستكون عرجاء أو فاسدة أو ناقصة، لكنها ستكون ديمقراطية على أي حال، وسيكون وجودها أفضل بكثير من انعدامها، فالناس تمارس الديمقراطية وتخطئ».
رأى هيغل أن: «أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية، فالممارسة تصحح نفسها باستمرار وتعدل من أخطائها إلى أن تصل إلى الحد الذي نرجوه، إننا هنا أمام تدريب يشبه تدريب المواطن على قيادة السيارة لا يمكن أن يؤجل بحجة أنه يقع في أخطاء، لا وصاية على الشعب حتى ولو كان أمياً متخلفاً، لأنه هو في النهاية صاحب المصلحة الحقيقية».
التجربة العربية مع الديمقراطية جمعت نفسها من خلال أمثلةٍ ونماذج يمكنها أن تكون موضع حكمٍ على تطبيقها. لقد جربت عربياً بوصفها مقدمةً لنتائج، فتحوّلت إلى آلية لحراسة ما هو قائم، من استبدادٍ وطغيان، واستثمرت أصولياً لتفريخ العنف، ولأنها استخدمت كمقدمةٍ لنتائج، لا نتيجةً لمقدمات، كررت أمراض المجتمعات التي تتحرك فيها، إذ أصبحت الطائفية وسيلة الضغط الأول لتحريك الجموع بكل تنويمٍ مغناطيسي إلى الصناديق، واضعين المرشح الذي أملاه عليهم «المثال» نصب أعينهم، سواء كان المثال  موجهاً، أو مرجعيةً حركية أصولية.
حرست «ديمقراطية المقدمات» كما في لبنان كل الأمراض واعتنت بها، وصارت الإكسير لجميع أنواع السفاهات التي تمارس باسم السياسة.
تحتاج الديمقراطية إلى حيوية الفضاء مدنياً حتى تتحرك باتجاه التنمية. ديموقراطيات المقدمات عربياً لم تحقق التنمية. يكتب جورج طرابيشي: «الديمقراطية تتعارض في ماهيّتها بالذات، مع فكرة المثال، فهي أكثر مذاهب الحكم واقعيةً، ولا تتطلب أبطالاً ولا أطهاراً، بل كلما كان الحكّام عاديين، كانت ضمانات الممارسة الديمقراطية من حيث هي بالتعريف (لعبة) أكبر». تلك هي الفكرة باختصار.
* كاتب سعودي