يُعد العمل الإنساني لدولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً رائداً يغطي معظم دول العالم، وينطلق من ثقافة إنسانية راسخة تنبع من إرث الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وتُشكل نهجاً مستداماً للدولة، برعاية وتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله.

ويرتكز ذلك النهج على ثلاثة محركات رئيسة، هي حماية المدنيين، خاصةً النساء والأطفال في حالات الكوارث والطوارئ، والعمل بشكل وثيق مع المنظمات المحلية والدولية، بالإضافة إلى التعاون الهادف معها لتعزيز جهود النظام الإنساني العالمي. وتواكب التجربة الإماراتية في العمل الإنساني تطورات الحاضر وتحديات المستقبل، وقد ظهر ذلك بوضوح من الدور الإنساني الإماراتي في كارثة زلزال سوريا وتركيا، على النحو الذي سنفصله فيما بعد، كما ظهر من قبل في كوارث ضربت باكستان والسودان ودولاً أخرى، وشهد العالم كله لدولة الإمارات العربية المتحدة بالكفاءة والجدارة في هذا المجال.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن تجربة العمل الإنساني الإماراتي تتصف بسمتين مهمتين، الأولى، أنها ثقافة ممتدة منذ نشأة الاتحاد، ومستمرة ومستدامة، بموجب البند التاسع في وثيقة المبادئ العشرة للخمسين عاماً القادمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، والصادرة في 5 سبتمبر 2021، والثانية، أنها عمل مؤسسي مدروس يمتلك قدرات فائقة على حشد جهود كبيرة في الإنقاذ والإغاثة والرعاية.

ويهدف العمل الإنساني الإماراتي، في الأساس، إلى رفع المعاناة عن المحتاجين والمتضررين في مناطق الكوارث والصراعات، في كل بلدان العالم. وتتميز تلك التجربة الرائدة التي جعلت من الإمارات عاصمة إقليمية وعالمية للعمل الإنساني، بأنها تمزج بين الإنساني والتنموي في الفكر والعمل، وتساعد الكثير من الدول، خاصةً الدول الشقيقة والصديقة، على تحقيق التنمية المستدامة، مما يحسن من مستوى معيشة المناطق الفقيرة فيها، وبالتالي إنقاذ تلك المناطق من محاولات التنظيمات المتطرفة لتحويلها إلى بؤر ساخنة للإرهاب. ويُمثل ذلك الهدف، بحسب تقديري، أسمى خدمة تقدمها دولة الإمارات العربية المتحدة في العمل الإنساني للعالم كله، وهي مدرسة تنفرد بأنها تزخر بالإسهامات والمبادرات السباقة كماً ونوعاً، وبمد يد العون والمساعدة لجميع الدول، دون أي تفرقة على أساس الدين أو العرق أو اللون.

جهود إماراتية جبارة في البحث والإنقاذ والإغاثة بتركيا وسوريا

 

لم يكن غريباً على دولة الإمارات العربية المتحدة ما قامت به من جهود إنسانية جبارة أبهرت العالم كله، خلال مشاركتها في أعمال البحث والإنقاذ والإغاثة في كارثة زلزال سوريا وتركيا، على مدار أكثر من أسبوعين متواصلين، وذلك بحكم تجاربها الناجحة السابقة في كوارث طبيعية مشابهة في دول عدة، إذ أكدت الدولة بإسهاماتها العظيمة والسريعة، في كارثة زلزال سوريا وتركيا، أنها مؤهلة تأهيلاً علمياً وتقنياً، ومادياً وبشرياً، على مواجهة الكوارث الطارئة بمنهجية الاستعداد المسبق والاستجابة السريعة للأحداث الطارئة، وبدت دولة الإمارات، بمجرد وقوع الزلزال، أشبه بخلية نحل، تعمل بقلوب مخلصة، وحرفية دقيقة، لإغاثة منكوبي وأسر ضحايا الزلزال في الدولتين، ونظراً لصعوبة حصر هذه الجهود الجبارة للدولة في كارثة زلزال سوريا وتركيا، فإن ما أذكره في مقالي هذا، هو بعض من هذه الجهود أسوقها على سبيل المثال لا الحصر. يأتي في مقدمة هذه الجهود مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بتقديم مئة مليون دولار لإغاثة المتضررين في سوريا وتركيا (خمسين مليون دولار للمتضررين في سوريا وخمسين مليون دولار للمتضررين في تركيا)، وإيفاد سموه، سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، في زيارة عاجلة إلى سوريا وتركيا عقب حدوث الزلزال، تجسيداً وتأكيداً للرسالة الإنسانية لدولة الإمارات العربية المتحدة، وتخصيص سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل الحاكم في منطقة الظفرة، رئيس هيئة «الهلال الأحمر» الإماراتي، عشرين مليون درهم، لتنفيذ برامج شهر رمضان لهذا العام في سوريا، وهذا ليس جديداً على دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة في أبريل 2022 «مبادرة المليار وجبة»، مطلع شهر رمضان الماضي، لتوفير الدعم الغذائي للفقراء والمحتاجين في 50 دولة حول العالم.

كفاءة نادرة وفاعلية لا نظير لها

 

وأظهرت الوزارات والهيئات الإماراتية كفاءة نادرة وفاعلية لا نظير لها، خلال أعمال البحث والإنقاذ والإغاثة، إذ شاركت وزارة الدفاع، باستجابة سريعة بتوجيهات من صاحب السمو رئيس الدولة، في جهود الإنقاذ بعملية «الفارس الشهم 2»، التي أبهرت العالم بها، ونجح فريق البحث والإنقاذ الإماراتي في إنقاذ العشرات من تحت الأنقاض، في سوريا وتركيا، ونفذ الفريق مهام البحث عن الناجين في المناطق الأشد تضرراً في محافظة كهرمان مرعش بتركيا، حيث «مركز الزلزال المدمر»، ونجح في إنقاذ عشرات الأشخاص، وطبق فريق البحث والإغاثة أعلى معايير الأمن والأمان، ولقي إشادة كبيرة من مسؤولي سوريا وتركيا، ونجحت حملة «جسور الخير» للتبرع التي أطلقها «الهلال الأحمر» الإماراتي في جمع تبرعات بمئات الملايين من الدراهم، تبرعت بها جمعيات ومؤسسات ومواطنون ومقيمون.

وتبدت فاعلية الاستعداد المسبق والاستجابة السريعة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة في تسييرها لجسرٍ جوي بلغ عدد رحلاته 106 رحلات، بواقع 65 رحلة طيران إلى سوريا، و41 رحلة إلى تركيا، حملت جميعها نحو 3014 طناً من المواد الغذائية والطبية وخيم الإيواء، وشملت المساعدات مستشفى ميدانياً في مدينة غازي عنتاب التركية، على مساحة 40 ألف متر مربع، يضم 50 سريراً وأربعة أسرة عناية مركزة، ومجهزاً لإجراء عمليات جراحية كبرى، وتلقى بالفعل أكثر من 174 مصاباً بإصابات خطيرة العلاج في هذا المستشفى، وفي مستشفى ميدانيٍ آخر، أقيم في منطقة الريحانية بمدينة هاتاي التركية، جرى تجهيزه على أعلى مستوى، ويحمل اسم «محمد بن زايد»، وأقيم هذان المستشفيان ضمن عملية «الفارس الشهم 2».

المدينة الإنسانية بدبي.. استجابة سريعة وإسهامات فاعلة

ضربت المدينة العالمية للخدمات الإنسانية في دبي- وهي أكبر مركز لوجيستي في العالم - المثل والقدوة في الاستجابة السريعة والإسهامات الفاعلة في الأزمات والكوارث، إذ نسقت مع شركائها وقامت، على وجه السرعة، بتسيير 11 رحلة طيران، تحمل قرابة 200 طن من المساعدات الطارئة لإيواء وإغاثة المتضررين من الزلزال، استفاد منها نحو 730 ألفاً في سوريا فقط، ومولت المدينة ثلاث رحلات من الرحلات الإحدى عشر عن طريق صندوق الأثر الإنساني العالمي، وسهلت المدينة وصول الثماني رحلات المتبقية عن طريق الجسر الجوي الذي أنشأته هيئة طيران الإمارات، وفعلت ذلك كله تحت رعاية القيادة الرشيدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله. وبتوجيهات من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله. خبرات طويلة وإسهامات فاعلة لم تأتِ تلك الجهود المبهرة من قبيل الصدفة، وإنما جاءت كثمرة لخبرات طويلة اكتسبتها دولة الإمارات العربية المتحدة من تجاربها الكثيرة السابقة في الإدارة الناجحة للأزمات والكوارث، ومنها نجاحها في أزمتي إنفلونزا الخنازير «إتش1إن1» 2009، وفيروس «كوفيد-19» المستجد، وهو نجاح حصلت بموجبه الإمارات، في وقته، على المرتبة الأولى في العديد من المؤشرات التنافسية ذات الصلة، كما استقت دولة الإمارات العربية المتحدة خبراتها الطويلة في هذا المجال من خلال المشاركة في أزمات وكوارث خارجية، كالمشاركة في إغاثة منكوبي السيول والفيضانات الأخيرة في السودان وباكستان، والمتضررين من كوارث أخرى في دول أخرى، منها فيضانات باكستان 1995م، وزلزال ذمار باليمن 1982م، وزلزال سومطرة في إندونيسيا 2004م، وزلزال تشيلي 2010، وكل هذه التجارب و الخبرات وغيرها انعكست بالإيجاب على العمل الإنساني والإغاثي الإماراتي في كارثة الزلزال الأخير بتركيا وسوريا.

سجل ممتد وحافل بالإنجازات

يُضاف إلى ذلك أن دولة الإمارات العربية المتحدة لديها سجل ممتد وحافل بالإنجازات في العمل الإنساني، إذ قدمت 206 مليارات درهم، في الفترة من 2010 إلى 2021، استفادت منها الدول النامية والمجتمعات الأقل دخلاً، وذهب منها حوالي 90 في المئة، إلى دول في قارتي أفريقيا وآسيا، وبلغ إجمالي المساعدات الإنسانية والإغاثية التي قدمتها المبادرات العالمية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، 382 مليون درهم عام 2020. ووصل عدد المستفيدين منها إلى 34.8 مليوناً، واحتلت الإمارات لسنوات عديدة المركز الأول عالمياً كأكبر جهة مانحة للمساعدات الخارجية في العالم قياساً إلى دخلها القومي، بنسبة بلغت 1.31 في المائة من إجمالي دخلها، وهي ضعف النسبة العالمية المطلوبة التي حددتها الأمم المتحدة بـ0.7 في المائة، فضلاً عن مضاعفة الدولة في عام 2015 للمبلغ المخصص للأعمال الإنسانية، بالإضافة إلى أرقام كثيرة أخرى لها الدلالات ذاتها، لكن لا يتسع ذكرها في مقالي هذا.

أهمية الاستعداد المسبق للأزمات والكوارث

مما لا شك فيه أن الاستعداد المسبق للأزمات والكوارث يجعل رد فعل الدولة محل الكارثة منسقاً ومنضبطاً، وليس فوضوياً أو عشوائياً، وهذا يعزز من اتخاذ القرارات السليمة، ويحد من الأخطاء البشرية خلال المراحل الثلاث لإدارة الأزمة، وهي، (ما قبل الأزمة، وأثناء الأزمة، وما بعد الأزمة)، وبالتالي يقلل الخسائر في الأرواح والمنشآت الاستراتيجية والحساسة مثل الوزارات السيادية والأنفاق والجسور والأبراج السكنية الشاهقة وشبكات الاتصالات والهواتف المحمولة وشبكات المياه وغيرها، ويرفع من هيبة الدولة ذات الاستعداد المسبق بين دول العالم، ويرسخ من قوتها الناعمة، ويجنبها حدوث الأزمات المصاحبة للأزمات والكوارث، كما يجنبها تفاقم الأزمات. ويتطلب الاستعداد المسبق الداعم للاستجابة السريعة توافر قاعدة تنظيمية ومعلوماتية وبنية تحتية لإدارة الأزمات والكوارث، وهذا ما تدركه القيادة الرشيدة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وتعمل باستمرار على توفيره، وفقاً لأحدث التطورات التقنية والتكنولوجية، كما تدركه الهيئات الإماراتية التي تعمل على إدارة الأزمات والكوارث في دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى رأسها المجلس الأعلى للأمن الوطني، ووزارتا الدفاع والداخلية، والهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ والأزمات والكوارث، والمنظومة الوطنية للإنذار المبكر، وكلها تمتلك أدوات وعناصر الجاهزية والاستعداد المسبق والاستجابة السريعة للتعامل الفاعل مع الأزمات والكوارث، وهو ما تأكد للعالم كله خلال إسهاماتها الفاعلة في كارثة سوريا وتركيا.

متطلبات الاستعداد المسبق والمواجهة الفاعلة للكوارث

وتتضح أهمية الاستعداد المسبق أكثر فأكثر، في ظل المخاطر المحتملة لتغير المناخ، والتي لم تعد دولة في العالم بمنأى عنها، إذ تشير دراسة لهيئة الأمم المتحدة بعنوان «إطار عمل هيوغو.. التأهب للكوارث لتحقيق الاستجابة الفعالة»، إلى أن العالم يشهد نحو 400 كارثة سنوياً، تتباين فيما بينها في شدة المخاطر، 90 في المئة منها مرتبط بالتغير المناخي، وهو ما يؤكد ضرورة امتلاك أي دولة تطمح في وقاية نفسها من الكوارث، ومواجهتها بنجاح حال حدوثها، القدرة على التنبؤ والتخطيط للكوارث المحتملة واتخاذ الإجراءات الوقائية لمنعها أو تسكينها، وتدريب الأفراد وتأهيلهم وتطوير عمليات الرصد، وتنفيذ الخطط وأعمال المواجهة والإغاثة، وتنفيذ عمليات الطوارئ والإخلاء، وعمل المتابعة والتقييم اللازمين للحدث والموقف، انتهاءً بحصر الخسائر وتأهيل المتضررين، وإعادة البناء وتقييم الإجراءات للخروج بالدروس المستفادة وتوثيق الحدث ووضع التوصيات والمقترحات لمنع تكراره أو مواجهة الكوارث المماثلة بكفاءة أكبر، وهذا كله يتوافر لدى دولة الإمارات العربية المتحدة بفضل القيادة الرشيدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وإخوانه أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد حكام الإمارات.

الرؤية الثاقبة لرئيس الدولة في قضية المناخ

تجدر الإشارة إلى أن ما حدث في تركيا وسوريا من زلزال مدمر، وتوقعات بعض الجهات المعنية من حدوث زلازل في دول أخرى، يؤكد النظرة الثاقبة والرؤية الصائبة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، والتي تبدت في تحذير سموه لدول العالم، خلال قمة مؤتمر المناخ «كوب-27» في مدينة شرم الشيخ المصرية، العام الماضي، من تبعات التغير المناخي، وإعلان سموه مبادرة استراتيجية لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050، وإعلان سموه شراكة إماراتية أميركية لاستثمار 100 مليار دولار على مشروعات الطاقة النظيفة والمتجددة، بالإضافة إلى دعوة سموه جميع دول العالم إلى الالتزام الجماعي باتفاقيات المناخ، لاسيما اتفاق باريس. في الإطار ذاته.

وكذلك دعوة سموه جميع الدول إلى التعاون في إيجاد حلول عملية تسهم في معالجة الخسائر والأضرار، وخلق فرص نمو اقتصادي مستدام للبشر في كل مكان، إذ قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله: «نجتمع في وقتٍ حرجٍ لكوكبنا، فعالمنا يواجه العديد من التحديات، ومن أهمها تغير المناخ الذي أصبح يؤثر على الاستقرار والأمن في العالم.. وبما أننا لا نملك إلا أرضاً واحدة من الضروري أن نوحد جهودنا لمعالجة هذا التَّحدي من خلال العملِ المناخي الذي ننظر إليه كونه فرصة للابتكار وإيجاد الحلولِ وتنويع الاقتصاد».

وتؤكد المعطيات سالفة الذكر أن دولة الإمارات العربية المتحدة لديها المقومات البشرية والمادية والتقنية لإدارة الأزمات والكوارث، وهذا الأمر يلقى عناية كبيرة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وإخوانه أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد حكام الإمارات، مما يعزز الثقة في مستقبل الدولة، ويؤكد أنه مستقبل مشرق على مختلف المستويات.

*كاتب إماراتي