في أكتوبر من العام الماضي، شاهدتُ مقابلةَ سفيرة السعودية في واشنطن الأميرة ريما بنت بندر التي تحدثت فيها إلى قناة الـ CNN، وكانت مقابلةً لافتةً ومهمةً جداً. والأميرة من خلال حديثها باللغة الإنجليزية المتقنة حدَّ الاكتمال، تثير الإعجابَ لا بمهاراتها اللغوية وحسب، بل أيضاً بقدرتها السياسية على المناورة الذكية وتسديد الأهداف المرتدة أمام أسئلة تشبه كمائن من حقول الألغام.
نحن أمام جيل جديد يعكس رؤيةً جديدة لعصر جديد بكل ما فيه، وقد عبّرت الأميرة عن ذلك بوضوح في تلك المقابلة، وبلغة غاية في الفصاحة، أكدت أن أي تحليل سابق قبل خمس سنوات لم يعد صالحاً اليوم لتحليل العلاقات مع السعودية (وهذا قد ينطبق على دول أخرى في المنظومة الخليجية)، وأضافت في تعريف مختصر شامل وجامع ومانع أنهم مجموعة من الشباب بقيادة شابة يريدون التعامل مع العالم وفق قواعد جديدة.
وهذا ينطبق على دولة الإمارات أيضاً، حيث تتم إدارة السياسة بقواعد جديدة سمعتها شخصياً قبل عامين في أبوظبي، وقد فهمتُ حينها من محدثي أن الإمارات تبلور رؤيتَها وتحدد مصالحها ضمن منظومة إقليمية قائمة على الشراكة والتنمية التشاركية.
نحن أمام عالَم جديد يأخذ شكله الجديد بتسارع مستمر، وإقليم كان اسمه «الشرق الأوسط» بدأ يبحث عن هويته «الإقليمية التشاركية» كشريك في العلاقات الدولية لا متلقياً لتبعاتها. 

وحتى العراق الذي كان إلى وقت قريب، قبل وبعد سقوط نظامه «البعثي»، حالةً ميؤوساً منها، بدأ الأمل يتشكل فيه رغم كل الصعاب التي تواجه عملية تنظيف كل ذلك الركام من الفوضى الدموية، إذ هناك بين كل تلك الأنقاض تبرز رؤية «عراقية» تحاول أن تثبت نفسَها، لكنها بحاجة إلى الدعم العربي كي تحرر نفسَها من الارتهان لبعض الأجندات الإقليمية.
وبالطبع، فإن إسرائيل جزء من هذه المنظومة الشرق أوسطية الجديدة، وهذا لا يعني «هيمنة إسرائيلية» كما يحلو لإنشائيات الثورجية أن تتحدث، بل بالأحرى ولمن يراقب ويتابع فعلاً، دخول إسرائيل لتلك المنظومة الجديدة يخضعها لشروط المنظومة نفسها بالشراكة الندية، وهذا يعني أن إسرائيل العالقة برؤية يمينية متشددة لا يمكن أن تنجح في العبور إلى منطقة الأمان الإقليمي إلا بتغيير مزاجها السياسي العام، وهذا ما ستقرره الانتخابات القادمة الوشيكة.
تمكن قراءة تلك الرؤى الجديدة التي بدأت بالتشكل في العالم العربي، بمشرقه ومغربه، بتباينات مختلفة طبعاً، ولا بد أن يواجه التجديد مقاومةً من «الحرس القديم» الذي اعتاد على مر التاريخ أن يتصدى لأي تغيير محتمل. والرابحون هم مَن يدركون سرعة التغييرات ويتوافقون معها في عالم جديد صارت ثورة التكنولوجيا المعرفية فيه موضةً قديمةً وقد دخل مرحلة الذكاء الاصطناعي.
نعم، هناك إقليم جديد يتشكل في عالم جديد يتشكل هو أيضاً، والشراكة هي عنوانه.. والتاريخ إما أن يكون درساً للعبرة أو يبقى إرثاً ثقيلاً على أكتاف مَن يحملونه في جغرافيا معظم سكانها جيل شاب يبحث عن فرصته في هذا العالم، وهو جيل قادر على التواصل مع نفسه بعيداً عن كل المحددات الموروثة المتجاوزة.


*كاتب أردني مقيم في بلجيكا