لا يظنّنّ الإخوة القراء أنني أريد الحديث عن الجديد السياسي، بل عن الجديد المعرفي. وكاتب هذه المقالة من عشّاق الكتاب لا سميا الذي ما يزال ورقياً منه. ولديّ عشرات التجارب والمغامرات سواء في اقتناء الكتب أو في قراءتها. قرأت مقالةً في إحدى الصحف عن عشّاق الكتب في أميركا في القرن التاسع عشر.

وكان بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً، وحدث أنّ أحد العشاق الفقراء أقنع عاشقاً غنياً أن يعمل عنده مقابل معيشته وهو كفيلٌ بأن يجمع له كل الكتب التي يحبها وحصل ذلك بالفعل. ولا يحسبنّ القارئ الكريم أنه ضروريٌّ أن يكونَ عاشق جمع الكتب قارئاً كبيراً. لكنْ وبالجمع على مدى عقودٍ وعقودٍ يكفي أن يقرأ الجامع عناوين ما يجمعه أو يسعى لجمعه حتى يصبح عارفاً واسع المعرفة.

من جهتي كنت دائماً قارئاً نهماً، لكنني لا أقصد إلى جمع الكتب القديمة الطبعات أو المخطوطات، بل كل ما يتصل بمجالات العلوم الإنسانية. وأذكر أني حين كنت أدرس بالمعهد الديني ببيروت كنت أعتمد في قراءاتي على الكتب في مكتبة المعهد وهي كتب دينية وأدبية قديمة.

لكني أقنعتُ مدير مكتبة المعهد أن يقتني لنا كتب العقّاد وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي، وفشلت في إقناعه بشراء سلسلة «روايات الهلال» ومؤلفات جورجي زيدان عن تاريخ العرب والإسلام والمكتوبة بأسلوب روائي. وأجرى ناظر المعهد لنا مباراةً في الخطابة. ففزتُ فيها وكسبت 25 ليرةً لبنانية كجائزة وكانت مبلغاً ضخماً بحساب تلك الأيام (1964)، فعدتُ في نهاية الأسبوع إلى قريتنا وسُرّ أهلي سروراً عظيماً، ونصحوني بشراء بعض الملابس للشتاء ولم أُمانع. لكن عندما ذهبت إلى مدينة زحلة بالبقاع لشراء الملابس، شاهدت في واجهة إحدى المكتبات القليلة بالسوق طبعةً من فتوح البلدان للمؤرخ البلاذري غلافها جميل، وحجمها ضخم، ومحققها فيما أذكر دكتور اسمه عبدالله أنيس الطبّاع، فدخلت إلى المكتبة وسألتُ عن السعر، فقال البائع: 18 ليرة. وما ترددت بل دفعتُ فوراً وأخذت الكتاب دونما مجادلةٍ في السعر، وكأنما أشفق صاحب المكتبة عليّ لسذاجتي فردَّ إليّ 3 ليرات فصارت النسخة بـ15 ليرةً.

وعندما عدت إلى القرية بدون شراءٍ الملابس أسِف والدي، لكنّ أمي رحمهما الله سُرّت وقالت: ستكون عالماً إن شاء الله وتكسب كثيراً من المال، فلا داعي للأسف. وبين لبنان ومصر وألمانيا وبريطانيا وأميركا حيث درستُ ودرّستُ، اجتمعت لديّ مكتبةٌ ضخمةٌ بدون قصدٍ ولا تخطيطٍ للجمع. وبالطبع ما قرأتُها كلّها لكنني استخدمت معظمها في دراساتي. وعندما أحصيناها وفهرسناها وقد أهديتُها لجامعة محمد بن زايد التي أُدرّس فيها الآن، زاد عددها على الـ45 ألف عنوان، بينها ثمانية آلاف كتاب باللغات الثلاث: الألمانية والإنجليزية والفرنسية.

في كل مكانٍ ذهبت إليه للتدريس سيطرت عليَّ هوايةُ إصدار المجلات الفكرية، فأصدرتُ خلال أربعين عاماً بدعمٍ من الجهات التي كنتُ أعمل لديها مجلات «الفكر العربي» و«الاجتهاد» و«التسامح/التفاهم».

ومن خلال المجلات تعرفت على مئات الأساتذة والزملاء الذين كانوا يكتبون فيها وكنتُ أقرأ الكتبَ ومراجعاتِ الأساتذة، وأستخدم جديدها في تدريس الطلاب. وعندما جئتُ للتدريس في جامعة محمد بن زايد حصلتُ على موافقة إدارة الجامعة لإصدار مجلة لمراجعات الكتب الجديدة، وقد صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد تتضمن مراجعات لستةٍ وثلاثين كتاباً في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وقد قرأتُها كلها بشغفٍ لا يوصف قبل إعطائها للزملاء للقراءة والمراجعة.  

  لا تحدثوني عن القراءة على الإنترنت أو على التلفون أو حتى بالPDF، فقد تعودتُ منذ ستين عاماً على القراءة بالورق الصلب.

وفي الإمارات الآن شهر القراءة. ولذا سارعتُ إلى شراء كتبٍ جديدةٍ في الفلسفة والتاريخ والإسلاميات والعلاقات الدولية، وأقبلتُ على قراءتها والحديث إلى الطلاب في كل درسٍ عن واحدٍ أو اثنين منها.

وأجد إقبالاً بارزاً من طلاب الدراسات العليا على تقليدي في الشراء وفي القراءة. لا لذة تُضاهي لذّة المعرفة. لكنّ رجلاً في سني لا يقرأ للمعرفة فقط، بل وللاستخدام في البحوث وفي الإعداد للمؤتمرات، ولنشر المقالات والمراجعات في المجلات العلمية.

ومن الكتب الكبيرة تظهر الأفكار الكبيرة والمشروعات. وأجد سروراً كبيراً في قراءة الكتاب الجديد لأحد الزملاء والثناء على الجهد المبذول وعلى الجديد فيه، فتحدث لي سعادة ثانية بإدخال البهجة على المؤلّف الصديق.    

الاستقبال اللائق بالجديد من الكتب يكون بالقراءة المتبصرة والمهتمة. وأدعو الزملاء والطلاب في شهر القراءة إلى اغتنام الفرصة، والاطّلاع على الجميل والجديد والمبدع. وأعتذر للزملاء والطلاب عن هذا الفخر بالنفس، لكنّ الفخر ليس عيباً إذا تضمن الحديث عن هذه الفضيلة!

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية