في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «مسالك القوة.. التفكير في الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين»، يتحدث فردريك أنسل عن نموذجين من الدول الصاعدة في النظام الدولي الجديد، أطلق عليهما «الدول الحواجز» و«الدول الجبهات». إنهما نموذجان يشتركان في الاستفادة الاستراتيجية من الموقع الجغرافي في سياق الصراع الدولي الكامن أو القائم.

وفي هذا السياق، يتحدث المؤلف عن حالة سنغافورة التي كانت عند استقلال ماليزيا عام 1965 مجرد قرية صيادين متواضعة في أقصى جنوبها، على مضيق ملقا المرتبط ببحر الصين الذي لم يكن سوى مسلك بحري هامشي في حركة التجارة العالمية. وهكذا سمحت ماليزيا بانفصال هذه المدينة البسيطة، التي تحولت بعد نصف قرن إلى دولة واسعة الثراء يتجاوز دخلُها القومي كثيراً جارتَها، كما أن قواتها الجوية والبحرية تعتبر من أهم الجيوش في المنطقة.

ولا شك في أن هذا الصعود له علاقة مباشرة بالنمو الاقتصادي الهائل للصين التي أصبحت القوة التجارية والصناعية الثانية في العالَم، بينما تضاعفت أهمية مضيق ملقا الذي يمر به 33 بالمائة من حركة التجارة البحرية الدولية، في حين غدا ميناؤها في سنة 2022 الميناءَ الثاني في العالم من حيث الحاويات المنقولة.

ومع تزايد احتمالات الصراع بين الصين والغرب، واستمرار حالة العداء بينها والهند، يتزايد دور سنغافورة الاستراتيجي في المعترك الاستراتيجي المستقبلي، من حيث هي محور وبؤرة هذا الصراع، بما يفسِّر التنافسَ الواسعَ بين القوى المحورية الكبرى حول استمالتها والتقرب منها.ويمكن أن تُصنَّف تركيا ضمن خانة الدول الحواجز، ولو بطريقة مغايرة، لكونها تستفيد من نفس «الريع الجغرافي» بسيطرتها على مضيقي البوسفور والدردنيل على محور روسيا - البحر الأبيض المتوسط. ولقد استفادت تركيا خلال الحرب الباردة من هذا الموقع الاستثنائي في إطار الصراع الغربي السوفييتي، وهي اليوم تستفيد منه في كبح الهجرات القادمة من الشرق الأوسط إلى أوروبا الغربية.

من الدول الحواجز أيضاً بولندا التي تشكل بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي الجبهةَ الرئيسيةَ في مواجهة ما تعتقد الدول الغربية أنه الخطر الروسي الذي يتهددها. وقد برز هذا الدورُ البولندي بوضوح خلال الحرب الأوكرانية الحالية، وغدت الولاياتُ المتحدةُ تنظر إليها بصفتها دولةً حاجزاً ومحورَ مواجهةٍ لا غنى عنه، مما يفسر الاهتمام الواسع لحلف الأطلسي بها.

ومن هذه الدول الحواجز أيضاً جمهورية أرمينيا بمضيقها «هرازدان» في خط التشابك بين إيران والجمهوريات الإسلامية الروسية. وانسياقاً مع نظرية «أنسل» حول الدول الحواجز، يمكن أن نستنتج أن مَحاور الصراع الاستراتيجي الدولي ستتركز مستقبلا حول مثلث: بحر الصين والبحر الأسود وشرق المتوسط، بما يفسر تنامي أهمية الدول التي تضطلع بدور الحواجز أو الجبهات في مناطق الصدام العالمي.لقد أبطلت التحولات التقنية والاقتصادية المعاصرةُ المفاهيمَ التقليديةَ للجغرافيا السياسية المتمحورة حول نظرية «المجال الحيوي» Der lebensraum التي بلورها المفكر الألماني «فردريتش راتزل». ووفق هذا النظرية التي اعتمدتها القوى الدولية الكبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر لا تتحدد مصالح البلدان بحيزها الجغرافي السيادي، وإنما بفضاء مصالحها الإقليمية الذي هو مجال حركتها الديبلوماسية وإطار تدخلها ونفوذها.

كما أن التحولات ذاتها أثَّرت بقوة على أطروحة «توازن القوة» balance of power التي كانت نقطة ارتكاز العلاقات الدولية. الدولُ الحواجزُ تَخترق مفاهيمَ التوازن والمجال الحيوي، وتكرس الدورَ المتزايد للبلدان محدودة الحجم، وإن كانت حاسمة التأثير. والسؤال المطروح هنا يتعلق بمنزلة العالم العربي في أرضية الصراع الاستراتيجي الدولي الجديد، من حيث كونه أحد الدوائر الأساسية في التجارة العالمية، كما يقع على تماس مع مسارح الاشتباك الجيوسياسي المستقبلي. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أهمية بناء منظور استراتيجي جديد للنظام الإقليمي العربي في ضوء المستجدات الراهنة، وفي ما وراء التحديدات الرائجة مثل الشرق الأوسط الكبير وغرب آسيا.

والمأزق الذي تحيل إليه هذه التحديدات هو الجمود على التصنيفات التقليدية المتجاوَزة التي تتركز حول خيوط الاشتباك الكلاسيكي بين الأطراف التي توزعت خريطةَ القوة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.وفي هذا السياق، يطرح سؤال التموقع العربي في الصراعات الحالية التي تدور على جبهات صراع الغرب مع روسيا والصين، حيث تشكل منطقتُنا بمفهومها الواسع مجالاً حاجزاً حاسم الفاعلية والتأثير، وإن كانت المصالح الإقليمية تقتضي تحييده في الصراعات الكونية الراهنة.

*أكاديمي موريتاني