من الطبيعي أن يحدث جدل حول المدى الذي بلغه الذكاء الاصطناعي، وما يمكن أن يصل إليه في الفترة المقبلة. فالتطورات في هذا المجال تمضي بوتائر أسرع مما كان متوقعاً. لكننا نجد في هذا الجدل تهويناً يبلغ أحياناً حد إغفال بعض آثار الذكاء الاصطناعي الواضحة، وتهويلاً يصل في جانب منه إلى تصور أنه سيُحقَّق معجزات.
وقد ازداد هذا الجدل في الفترة الأخيرة بعد ابتكار تطبيق «تشات جي. بي. بي» الذي يعمل وفق تكنولوجيا حوسبة اللغة، والبيانات الضخمة Big Data. فللمرة الأولى يمتلك تطبيقٌ معتمد على الذكاء الاصطناعي قدرةً على الإجابة عن أسئلة في صورة نصوص متكاملة، ويختصر بالتالي ساعات من البحث، بدرجات متفاوتة من الدقة. ورغم أنه مُدعَّم باللغة الإنجليزية في الأساس، فقد جُرب بلغات أخرى من بينها العربية، وكذلك الفرنسية والألمانية والروسية واليابانية، وقدّم نتائج بعضها جيد والبعض الآخر معقول حسب تقديرات مَن كتبوا عن تجاربهم في استخدامه بهذه اللغات.
والملاحظ أن السؤالين الأساسيين المُختلف على جواب كلٍ منهما، في هذا الجدل، هما: إلى أي مدى سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى الاستغناء عن الموظفين؟ وهل سيحدث هذا في مختلف المجالات أم في بعضها فحسب؟ 
ويعود الاختلاف على جواب السؤالين غالباً إما إلى تباين تجارب مَن يجيبون عنهما، أو إلى أن مَن لا يتوقعون إحلال الذكاء الاصطناعي محل أعداد كبيرة من الموظفين يبنون تقديراتهم على مستوى تطوره الراهن، في حين يُركِّز مَن يَرونه ممكناً على مستقبلٍ يرونه قريباً.
وإذا أخذنا تطبيق «تشات جي. بي. تي» مثالاً، نجد أن الاختراق الذي ينطوي عليه متفاوتٌ من مجالٍ إلى آخر. فهو أكثر فائدةً في الجواب عن أسئلةٍ تتعلق بأمور أو مسائل روتينية، إذ يكون المطلوب منه تقديم نصوص معتمدة على بعض المعلومات التي تم تزويده بها. ولهذا أثار قلقاً في بعض الأوساط التعليمية خشية استخدامه في الإجابة عن أسئلة امتحانات من هذا النوع، وخاصةً بعد أن تبينت صعوبة التمييز بين إجاباتٍ معتمدة عليه وغيرها. لكن فائدته تَقل كلما كانت الأسئلة بشأن قضايا تستدعي إجاباتُها تفكيراً لا يَقدر عليه إلا العقل البشري. وقد لا يفيد استخدامه، والحال هكذا، في مجالاتٍ مثل الرياضيات والهندسة والكيمياء، لأن الإجابة عن كثير من أسئلتها تتطلب مهارةً وابتكاراً، وليس استخداماً آلياً لبعض المعلومات المُخّزنة. كما أن هذه البيانات تحتاج تحديثاً باستمرار. فإذا سُئل «تشات جي. بي. تي» مثلاً عن حرب أوكرانيا، فإن لن يجيب، لأن البيانات الموجودة في ذاكرته تنتهي عند عام 2021. 
وهذا ما يستند عليه مَن يرون أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يؤدي عمل العقل البشري في المجالات كلها. لكن مَن يتوقعون العكس يستندون على التطورات السريعة التي ستتيح في تصورهم ابتكار روبوتات وتطبيقات تستطيع تطوير البرامج التي تعمل بمقتضاها، الأمر الذي سيؤدي إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في كل مجال.


*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية