يبدو مثيراً هذا العجز المزمن عن حل القضايا العربية التي باتت أمراضاً مزمنةً وصعبةَ العلاج، ويبدو أن الزمن يمشي بطيء الخُطا في أرضنا العربية، وأقدم القضايا المعاصرة العالقة هي القضية الفلسطينية التي تمضي إلى الثمانين من عمرها وهي تراوح مكانها دون حل، ولا يزال كثير من الفلسطينيين لاجئين، وكبار السن منهم ما زالوا يحملون مفاتيح بيوتهم ويعلقونها على جدران المنفى، وقد ظهرت أجيال من الفلسطينيين الشباب لا يعرفون فلسطين، لكنهم ورثوا تَعلُّقَهم بها من آبائهم وأمهاتهم، ولم تَجد المبادراتُ العربيةُ المتنوعةُ أفقاً لإيجاد حل سياسي، ولا يزال البحث جارياً.

وكنت أحد مَن احتفظوا بمفتاح البيت حين غادرتُ دمشق أملاً بالعودة بعد بضعة أيام أو شهور، متفائلاً أن نجد حلاً سريعاً تنتهي معه الأحداث المريعة التي عصفت بالبلد ومثلتْ الزلزال المدمر الذي هو أخطر من زلازل الطبيعة التي تمر في دقائق أو ثوان، بينما زلازل السياسة والثورات والاضطرابات يطول أمدها، وتبدو هزاتها الارتدادية بعيدة المدى وشديدة الوقع على النفوس، وها نحن ندخل العام الثالث عشر للأزمة السورية دون الوصول إلى حلول.

وعلى الرغم من كون الهزات الارتدادية للفاجعة السورية كثيرة وشاملة لكل ميادين الحياة، فإن بعضَ نتائجها تزيد الفواجعَ بؤساً، وأخطرها عندي ولادة أجيال من اليافعين محرومين من التعلم، وقد باتوا يعدون بالملايين، بعضهم ولد في سنوات الجمر، وبعضهم كانوا دون المدرسة حين بدأت الهجرات إلى بلاد اللجوء، ومَن نجوا وتمكنوا من دخول المدارس في بلدان أجنبية حملوا هويات تلك البلدان التي أمَّنت لهم متابعةَ التعلُّم، فأضاعوا هويتهم وفقد كثيرٌ منهم الانتماءَ الذي يحمله أهلُهم، وبعضهم يواجه اليوم امتحاناً خطيراً، حيث تتوقف سلطات بلد اللجوء عن تجديد الإقامات للأبوين وتطالبهم بالرحيل والعودة إلى بلدهم وقد صار آمناً، كما يقولون.

ولو عاد هؤلاء موافقين أو مرغمين، فإنهم يواجهون مشكلةَ مستقبل أبنائهم الذين درسوا مراحل مهمة في بلدان اللجوء الأوروبية، مثل السويد أو الدنمارك وسواهما، بلغات تلك البلاد، وليس بوسعهم متابعةَ التعلّم في مناهج سورية، كما أن القوانين في بعض تلك البلدان تتيح لسلطات إنفاذ القانون أن تنزع الأطفالَ من أحضان أهلهم ونقلهم إلى أسر غريبة عنهم تحرمهم من حنان ورعاية الأهل.

ويشتد الإلحاح الدولي على عودة اللاجئين السوريين، وغالبيتُهم فقدوا بيوتَهم في سوريا خلال سنوات الدمار، كما أن الوضع الاقتصادي والخدمي في سوريا غير قادر على احتوائهم مادياً، ولا بد من تهيئة البنى التحتية ومعالجة الوضع الاقتصادي لاستقبال ملايين اللاجئين المدعوين حالياً للعودة، فضلاً عن الضمانات الأمنية التي تتيح لهم عودةً آمنةً.

ومما يدعو للحذر والقلق دعوة تركيا، وقبلها لبنان، لرحيل اللاجئين السوريين، دون تهيئة ظروف تجعل العودةَ طبيعيةً وواعدةً. فلا يزال ملايين السوريين من النازحين في الشمال السوري يعيشون في خيام تقتلعها العواصف الشتوية، ويكاد يحرقها قيظ الصيف، وكثير منهم يعيش على فتات ما يصلهم من مساعدات دولية.. فهل يعود اللاجئون في الخارج إلى مثل هذه الخيام؟ تحتاج سوريا إلى بناء العديد من المدن الصغيرة المجهزة بالحد المقبول من مستلزمات الحياة، ومن ماء وكهرباء وصرف صحي ومدارس ومشافٍ وموارد عمل لتوفير دخل للعائدين.. وهذا ما ينبغي أن يساعد به الداعون إلى عودة اللاجئين.

أما الدعوة إلى تنفيذ القرار 2254 فتحتاج إرادةً دوليةً جادةً، وإلى قناعة بأن هذا القرار هو الحل الممكن، وهو قرار لا غالب فيه ولا مغلوب، إذ يوفر لكل الأطراف أمنهم وحضورهم ومصالحهم، ويوفر فرصةً لرأب الصدع الاجتماعي، وإعادة بناء سوريا واستعادة دورها العربي والدولي.

*وزير الثقافة السوري السابق