عبر فضاء هذه المساحة تطرقت كثيراً وطويلاً لضرورات الاجتهاد إقليمياً في اجتراح مقاربات محفزة لخفض مستويات التوتر واستحثاث واقع قد يؤهل لاستدامة الاستقرار (إذا اقترنت النوايا بالأفعال)، وذلك تماماً ما حققته المصالحة السعودية الإيرانية برعاية الصين، وكذلك كانت الخطوات الإماراتية المعززة لذلك المسار.

والصين هي الشريك الاقتصادي الأكبر لأهم الاقتصادات الإقليمية (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة). إلا أن جوهر هذه المقاربة هو التحول في الحالة الصينية وليس السعودية- الإيرانية، فالانخراط الصيني له أسسه من المنظور الصيني، وأولها تحقيق التوازن الاستراتيجي في العلاقات ثلاثية الأبعاد بما يتجاوز الملف النووي الإيراني، وكذلك إبراز حيوية الدبلوماسية الصينية شرط نضج الظروف الموضعية لحدوث مثل ذلك الانخراط.

الدبلوماسية الدولية (خارج إطار الدبلوماسية الاقتصادية) ليست ضمن الأولويات الصينية كون غالبية الملفات، إما نتاج إرث لحقب سابقة أو نتيجة غياب توافق «إرادة» الأقطاب، والملف النووي الإيراني أحد أهم تلك النماذج. وبكين ليست بالطرف الطارئ على المنطقة وقضاياه، فقد سبق أن قدمت مقترحاتها في أكثر من ملف إقليمي (العراق/ سوريا/ اليمن/ أمن الملاحة)، إلا إنها جاءت في إطار تقليدي الأدوات مخافة تعريض مصالحها للخطر.

أما هذا الانخراط الصيني المباشر في الشأن الإقليمي فقد جاء نتيجة نضج أكثر من ظرف موضوعي، وأولها انغلاق آفاق التوصل لاتفاق بين إيران والمجموعة الدولية حول ملفها النووي، ثانياً، واقع ما أنتجته الأزمة الأوكرانية من حالة عزل تام للحليف الروسي، ثالثاً، البناء على نتائج التحول في حالة الدبلوماسية الخليجية (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة)، ورابعاً، جملة التحولات في الحالة الإيرانية (اجتماعياً/ اقتصادياً/ جيوسياسياً)، أما خامساً فهو المصالح الصينية.

أحد أهم محركات الدبلوماسية الصينية الجديدة هو جملة التحولات في النموذجين الخليجيين (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة)، فالصين ترى المنطقة بعد قمة العلا من منظور الجغرافيا السياسية القادرة على تجاوز تبايناتها والتكامل الاستراتيجي بكل تفاصيل ذلك بما فيه التكامل اللوجستي والطاقي. أما ثانياً فهي لا تستطيع القبول بتجاوز ندها الهندي في لعب دور أمني واقتصادي متقدم في المنطقة دون منافسة بأدوات أخرى.

كذلك مثّل تقاطعُ المصالح محفزاً آخر، فأمن الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن مرتبطان بالأمن في القرن الأفريقي، والصين باتت لاعباً رئيسياً في شرق ووسط أفريقيا، ولها حضور متعاظم في البحر الأحمر، مما يستوجب التنسيق معه لتأمين تلك المنطقة وكذلك تحفيز الصين على لعب دور متقدم في إعادة الاستقرار للقرن الأفريقي، ناهيك عن مصالح مشتركة كبرى قد يكون أكبر عناوينها إعادة إعمار سوريا.

التحدي الأكبر لهذه المقاربة يتمثل في مفهوم الصين لدور «الضامن» في هذه المقاربة، فهي منفردة ستكون المسؤول من وجهة نظر أكثر من طرف، إلا أن نتائج زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا هي ما يترقب الجميع سماعها، لما لتأثيرها من وقع قد يكون جيواستراتيجيا بعد نجاحها في الشرق الأوسط.

* كاتب بحريني