publication : الاتحاد
 
 
د.السيد ولد اباه*
هل تنجر عن الخيارات الليبرالية الداخلية نتائج مماثلة على مستوى السياسة الخارجية؟ وهل يمكن بناء منظور جيوسياسي على اعتبارات الديمقراطية الليبرالية؟----------------------------------------- لم يزل الإشكال الفلسفي النظري حول القيم والمصالح في النظام الدولي مطروحاً منذ نشأة المنظومة القانونية الحديثة قبل قرون ثلاثة. والسؤال المطروح هنا هو: هل تُسيِّر المصالحُ المحضةُ المجموعاتِ السياسيةَ بما يؤدي إلى تصور الدول في شكل قوى متصادمة في عالم الطبيعة الهوبزي (نسبة إلى الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز)، أم أنها تنتظم وفق قيم ومعايير إنسانية وقانونية تكرس وتجسد مُثُلَ السلْم المدني والحرية وحقوق الإنسان؟ يرجِع عالِمُ الاقتصاد والسياسة الانجليزي «بول تاكر» إلى هذا الإشكال المحوري المتجدد في كتابه «الصدام الشامل» Global Discord (صدر نهاية سنة 2022)، وهو دراسة معمقة في أزمة وتوجهات النظام الدولي الجديد. في هذا الكتاب، يتجاوز المؤلفُ الجدلَ التقليديَّ بين الاتجاهين الواقعي والمثالي في العلاقات الدولية، مبيِّناً أن الساحةَ الدولية وإن كانت فوضويةً تحكمها المصالحُ والمنافعُ فإنها تخضع في الآن نفسه لالتزامات وتوافقات تحددها وتضبطها مؤسساتٌ عابرة للحدود والحواجز القومية. وفي غالب الأحيان لا تشعر الدول بالتعارض بين مصالحها الوطنية وقيمها المرجعية، كما هو شأن الديمقراطيات الغربية التي تقيم علاقاتها في ما بينها على رصيد كثيف من التعايش المشترك والتعاون الجماعي. بيد أن الأطروحةَ الليبراليةَ المتفائلةَ تُخطئ عندما تتوهم إمكانيةَ إخضاع النظام الدولي للمعايير الأخلاقية والعقلانية، وصولا لبناء عالَم خالٍ من العنف والصراع، إذ من الجلي أن المستقبلَ محفوف بالمخاطر والحروب والفتن. الحديث في أيامنا منتشر حول صعود النظم غير الليبرالية في الصين وروسيا، والتي لا تقاسم الغربَ تصوراتِه للقانون الدولي وإيمانه بفاعلية وشرعية المؤسسات العالمية الكونية. ما يذهب إليه «تاكر» هو إمكانية تجاوز تحديات النظام الدولي من خلال توطيد واستثمار روابط المصلحة المشتركة بين الأمم والبلدان، دون الحاجة إلى الاستناد إلى قيم مثالية مطلقة. بل إن هذه المصالح النفعية تتحول عادة مع الزمن والتجربة إلى التزامات معيارية قوية وإن كانت في الأصل مجردَ توافقات نفعية محدودة وظرفية. إن الشرعيةَ مِن هذا المنظور تنبع من داخل المسارات السياسية، وليست بالضرورة قيماً مثاليةً خارجيةً، ذلك أن أفكار المسؤولية الديمقراطية ومحورية قيم الإنسان واحترام الحرية الفردية هي نتاج الحركية الاجتماعية الحية بقدر ما هي مُثُل وقيمٌ عليا.وإذا كانت هذه الأفكار قد نفذت بقوة إلى النظم السياسية الوطنية، فإنها ما تزال عصيةً على النفاذ إلى حقل العلاقات الدولية في دوائره الاقتصادية والمالية والسياسية، خصوصاً مع تنامي مشاعر التمرد على الهيمنة الغربية لدى دول عديدة صاعدة. وهكذا يخلص «تاكر» إلى استشراف أربعة سيناريوهات مختلفة في ضبط اتجاهات العلاقات الدولية: مشهد استمرار الهيمنة الأميركية، ومشهد إعادة تشكّل النظام الدولي إثر نهاية السيطرة الأميركية، ومشهد الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة، ومشهد تصادم القوى العظمى عبر مناطق نفوذ خاصة متمايزة. ولا يمكن حسب «تاكر» حسم الخط النهائي لهذه التحولات الدولية في خيوطها المتعارضة المتصادمة.إن أهمية أطروحة «تاكر» تكمن في تناول إشكالية القيم والمصالح في العلاقات الدولية الراهنة، بإبراز شبكات الترابط والتداخل بين المرجعيات المعيارية في الجغرافية السياسية الحالية والمعطيات العملية الإجرائية التي تحكمها موازين الصراع والقوة. وإذا كانت المدرسة الليبرالية التقليدية قد ادعت حسم هذا الإشكال في تصوراتها القانونية الصورية للفعل السياسي، فإنها عانت في السنوات الأخيرة من مصاعب جمة في تشريع وتسويغ السياسات الأحادية للقوى المهيمنة على النظام الدولي. ومن هنا يصبح السؤال المطروح هو: هل تنجر عن الخيارات والحلول الليبرالية الداخلية نتائج مماثلة على مستوى السياسة الخارجية؟ وهل يمكن بناء منظور جيوسياسي على اعتبارات الديمقراطية الليبرالية في ما وراء حقل انطباقها المحلي؟ لقد طرح هذا الإشكال في السنوات الأخيرة لسببين رئيسيين هما: الانزياح المتزايد بين التوجهات الداخلية للنظم الليبرالية وسياساتها الخارجية التي تحكمها معايير القوة والهيمنة، والانفصام الواسع بين الرؤية الليبرالية والديناميكية التمثيلية التنافسية التي هي الآلية العملية للديمقراطية التعددية. وبالنظر إلى هاتين الظاهرتين المتزامنتين، لم يعد من الممكن اعتماد أحد التوجهين الكبيرين في الدراسات الاستراتيجية (الواقعية والمثالية)، كما لا يمكن اختزال الأزمات العالمية الراهنة في نمط جديد من الحرب الباردة بين القطب الليبرالي والقوى الاستبدادية الصاعدة. ومن هنا وجاهة الرؤية التركيبية الإشكالية في مقاربة «تاكر» التي وقفنا عندها بالعرض والتعليق. *أكاديمي موريتاني