يقول 16 في المئة من القوة العاملة البريطانية، أي واحداً من كل ستة بريطانيين، إنهم يعانون من مشاكل صحية طويلة الأمد. هذا الرقم ارتفع بأكثر من الثلث منذ عام 2010، من 5,2 مليون إلى أكثر من 7 ملايين، وهو لا يبدي أي مؤشر على التراجع، مثلما حدث في بلدان أوروبية أخرى. وفضلاً عن ذلك، فالبريطانيون المصابون بأمراض مزمنة (أو طويلة الأمد) لا يعانون فقط من مشاركة منخفضة بشكل مستمر في القوة العاملة (أكثر من ربع الأشخاص غير النشطين اقتصادياً يعانون من أمراض)، ولكنهم أيضاً أقل إنتاجيةً حينما يعملون، ويميلون إلى شغل وظائف بدوام جزئي والعمل لساعات أقل. وهذه مشكلة اقتصادية خطيرة ومعضلة إنسانية، نظراً لأن الصحة والثروة مترابطان ارتباطاً وثيقاً. 
والواقع أن أحد الأهداف الرئيسة لميزانية وزير الخزانة البريطاني «جيريمي هنت» كانت معالجة المشكلة التي يعكسها رقمان معبّران جداً؛ إذ إن بريطانيا لديها مليون وظيفة شاغرة، وهذا ما يفسّر فترات الانتظار الطويلة على الهاتف، لكن لديها كذلك أكثر من 7 ملايين بالغ (بدون احتساب الطلبة) لا يعملون وليسوا ضمن القوة العاملة. الوزير أعلن عن جملة من التدابير لإصلاح قواعد الإعاقة حتى يستطيع الأشخاصُ المعاقون العودةَ إلى العمل بسهولة أكبر. وقد اعترف بانتشار آفات صحية جديدة مثل مشاكل الهيكل والعضلات ومشاكل الصحة العقلية. ووفّر المالَ لتشجيع الشركات على توفير صحة مهنية أفضل. كما أعلن عن خطط نموذجية لـ«مراكز صحية» حيث يستطيع الناسُ الذهابَ طلباً للنصائح، لاسيما بخصوص الصحة العقلية ومشاكل الظهر، وذلك بدون إحالة من الطبيب. كما لوّح بـ«مزيد من الشروط القوية» للحؤول من دون إساءة استغلال النظام. 

ولا شك في أن الحكومة تستحق الإشادةَ لإدراكها أن الصحةَ باتت تمثّل مشكلةً كبيرةً، ولمساعيها الرامية إلى معالجتها من الكثير من الزوايا. غير أنه من غير المرجح أن تُحلَّ هذه المشكلة قريباً. ذلك أن مشاكل بريطانيا الصحية لها جذور عميقة تمتد إلى التفاوت بين المناطق، والضغط الهائل على نظام الرعاية الصحية الـ«إن إتش إس»، وانخفاض الإنتاجية. 
فمشكلة سوء الحالة الصحية مقترنة بمشكلة الفقر. وبريطانيا لديها مستوى مرتفع من التفاوت الاجتماعي مقارنةً مع بلدان غنية أخرى (البريطانيون الأغنياء يمكن أن يتوقعوا عيش 15 سنة أكثر من البريطانيين الفقراء)، ومستوى مرتفع من التفاوت بين المناطق (بعض المناطق في المملكة المتحدة أكثر فقراً من أوروبا الشرقية)، ومستوى مرتفع من فقر الأطفال. وعلاوة على ذلك، فإن التغذية السيئة تؤدي إلى مشاكل القلب والسمنة والسكري. كما أن البيوت التي تعاني من مستويات مرتفعة من الرطوبة تتسبب في أمراض تنفسية، وخاصة إذا كانت هذه البيوت تعاني «العفنَ الأسود»، وهو وباء يوجد في السكن الاجتماعي. والاقتصاد المسدود يدفع إلى تعاطي المخدرات، حيث تسجل مدينة دندي الاسكتلندية أكبر عدد من الوفيات الناجمة عن استهلاك المخدرات في أوروبا.
ومن جهة أخرى، ترسخ الحالةُ المزريةُ لنظام «إن إتش إس» الصحي هذه المشاكل. ذلك أن بريطانيا لديها واحد من أقل المعدلات بخصوص الأطباء وأسرّة المستشفيات مقارنةً مع المرضى في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. ونتيجة لذلك، تضاعفت قوائم الانتظار منذ عام 2016، وباتت المستشفياتُ تنفذ عمليات جراحية أقل بـ12 في المئة مقارنةً مع فترة ما قبل الوباء. وبذلك، ألغت هذه المشاكل اثنتين من الفضائل العظمى لخدمة صحية وطنية مجانية هما: تشخيص الأمراض مبكراً وإعادة الأشخاص المصابين بالمرض إلى العمل. 
وتُعزى مشاكل بريطانيا الصحية أيضاً إلى مشاكلها المرتبطة بالإنتاجية على المدى الطويل. ذلك أن الإنتاجية المنخفضة تعني أن هناك أموالاً أقل لاستثمارها في ما يسميه آندي هولدين، كبير الاقتصاديين السابق في «بنك إنجلترا»، «نظام المناعة الاجتماعية» للبلد، والتي تحبس الناس في وظائف تكرارية وذات أجور منخفضة. ثم إن الإنتاجية الضعيفة والصحة الضعيفة تقوّيان بعضهما بعضاً في دورة من التدهور: إذ كلما ساءت حالة القوة العاملة، تقلصت احتمالات أن يكون البلد قادراً على جذب استثمارات منشطة ومهمة.
رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون كان يحب أن يستشهد بمقولة الفيلسوف الروماني شيشرون حول صحة السكان باعتبارها القانون الأسمى. والحال أن تدهور صحة بريطانيا لا يمثّل أكبر مشكلات السياسة الحكومية الأخيرة فحسب، ولكنه قد يثبت أيضاً أنه أكبر عائق في وجه تحسين الاقتصاد على المدى الطويل. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست آند لايسنسينج سيندكيشن»