في ظل التطورات السياسية الإقليمية والدولية المرتقبة، والتي قد تنعكس على مسيرة الاقتصاد العراقي، وحرصاً من حكومة محمد شياع السوداني على توفير الحد الأدنى من الاستقرار المالي وتسهيل أعمال المؤسسات، قررت اعتماد مشروع الموازنة العامة الاتحادية لثلاث سنوات (2023–2024–2025). وهذا مع العلم أن العراق تخلف عن إقرار موازنة الدولة للعام الماضي، بسبب استقالة الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، واستمرار الخلاف السياسي بين الأحزاب والكتل النيابية.
وإذا كان قانون الإدارة المالية النافذ رقم 6 لسنة 2019 المعدل، ينص على موازنة سنوية، فإن المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، يرى أن ذلك لا يمنع من أن تقدم الدولةُ خطةً ماليةً تحتوي على تقديرات وتنبؤات لسنوات مقبلة، ليكون لدى مجلس النواب والمشرعين تصور حول كيفية سير الأمور المالية للدولة. لذلك يبقى مشروع موازنة الثلاث سنوات، استرشادياً وخاضعاً للتعديل تبعاً لأسعار النفط، وطبيعة الإيرادات والنفقات في السنوات المقبلة. وتبقى موازنة العام الحالي هي القانون.
ورغم استفادة العراق من ارتفاع أسعار النفط، بما مكّن الحكومةَ من إقرار موازنة تعتمد أرقاماً قياسيةً بلغت نحو 151.5 مليار دولار، تمثل فيها مساهمة عائدات النفط ما لا يقل عن 90 مليار دولار، فهي في الوقت نفسه تحمل عجزاً بلغ 48.4 مليار دولار. ولتغطية هذا العجز تراهن الحكومةُ على ارتفاع أسعار النفط فوق السبعين دولاراً للبرميل، وهو السعر المعتمد في أرقام الموازنة، وإلا فستضطر إلى الاستدانة من الأسواق الخارجية ومن مؤسسات التمويل الدولية. أما سبب ارتفاع أرقام الموازنة، فيعود إلى تثبيت العقود في كل الوزارات، إضافة إلى دفع نحو 9.2 مليار دولار لتسديد ديون مستحقة. 
ويبدو من اللافت في أرقام الموازنة، ضآلة حجم الموازنة الاستثمارية البالغ 36 مليار دولار، مقارنةً مع الموازنة التشغيلية البالغة أكثر من 115 مليار دولار. وقد أشار رئيس الوزراء، خلال زيارته لمقر الهيئة الوطنية للاستثمار، إلى وجود «عوائق كثيرة» تقف في طريق تطوير الاستثمار، مؤكداً «ضرورة وضع رؤية واضحة للاستثمار والخطة الاستثمارية، بما ينعكس على تلبية متطلبات البلد والمواطن والبرنامج الحكومي». وفي هذا السياق، أعلنت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني أن العراقَ حصل على ائتمان عالي المخاطر بدرجة CAA1 مستقرة، وهو ما يضعه في خانة التزامات ضعيفة وتحمل مخاطر مرتفعة، لكن النظرة للمستقرة تعكس التوازنَ بين التطورات الإيجابية في الفترة الأخيرة وهشاشة الوضع المالي والاقتصادي والسياسي عامة.
أما صندوق النقد الدولي، والذي أنهى خبراؤه مشاورات المادة الرابعة في بغداد بنهاية العام الماضي، فقد انتقد استمرارَ اختلالات التوازن الأساسية، وازدياد الاعتماد على النفط. وتوقَّع أن يرتفع الإنتاج بصورة تدريجية من 4.4 مليون برميل إلى 5 ملايين برميل يومياً في العام 2027. وقد أكد الصندوق في هذا السياق: «ستكون للاستفادة من الفرصة التي وفرتها الإيرادات النفطية العالية، في عكس اتجاه مَواطن الضعف الآخذة في التصاعد وتحديث الاقتصاد، أهميةٌ قصوى في مواجهة العديد من التحديات التي تلوح في الأفق، والتي تضع على المحك بشكل خطير حدودَ النموذج الاقتصادي المعمول به حالياً في العراق». لذا دعا الصندوقُ الحكومةَ العراقيةَ للبدء بإجراء تحوّل اقتصادي هادفٍ، مصحوباً بسياسة للمالية العامة تكون حصيفةً ومتأنيةً ومنضبطةً، وتهدف إلى بناء احتياطيات مالية وقائية، وإلى إعادة توجيه مسار الإنفاق نحو الاستثمارات ذات الأولوية. كما دعا إلى توخِّي الدقة في ضبط ومواءمة موازنة 2023 مع هذا التحوّل الذي يعتبر خطوةً حاسمةً لتعزيز وتطوير القطاع الخاص، باعتباره المحرك الرئيسي للنمو والتشغيل وتوفير فرص العمل.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية