تعودتُ خلال زياراتي المنتظمة للقاهرة أن أمر ببيت أفريقيا، وهي التسمية التي أطلقتُها على بيت حلمي شعراوي المطل على نهر النيل في حي الزمالك العريق، وكثيراً ما كان يعج بالسياسيين والباحثين الأفارقة من كل الأصقاع والأنحاء. كان الرجل بقيةً من الجيل المصري الذي عرف أوضاع القارة واهتم بها شديدَ الاهتمام في الخمسينيات والستينيات، عندما كانت القاهرةُ عاصمةَ حركات التحرر الأفريقي أوانها، وكان الرئيسُ جمال عبد الناصر أحدَ رموز السياسة الإفريقية إلى جانب كوامي نكروما وباتريس لوموبا وأحمد سيكو توري. في تلك الفترة ظهرت أهم المبادرات العربية الإفريقية المشتركة التي تجسدت أساساً في تأسيس كتلة عدم الانحياز التي هي المظهر المؤسسي للفكرة الآسيوية الإفريقية. 
ولقد عمل الشاب المتخرج حديثاً من قسم علم الاجتماع في مكتب الرئيس للشؤون الإفريقية، مسؤولاً عن حركات التحرر في شرق أفريقيا، قبل أن يكون مسؤولاً عن مكاتب الحركات التحررية الإفريقية الكثيرة في مصر.
كان شعراوي إلى جانب الوزير محمد فايق والسياسي الإعلامي أحمد حمروش والأكاديمي المعروف عبد المالك عودة والمفكر الاقتصادي سمير أمين.. من القلة الذين حافظوا على الشغف بالقارة السمراء، في مرحلة طغى فيها المد القومي العربي وكادت مصر تتنفس برئتها المشرقية وحدها.
وتعمقت علاقته بقضايا القارة خلال إقامته في تونس خبيراً في الشؤون الإفريقية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في بداية الثمانينيات أيام إدارة صديقه السوداني محيي الدين صابر.
ورغم رحلاته الكثيرة التي استأثرت الدول الإفريقية بجلها، لم يقم خارج بلاده إلا في السنوات التي قضاها في تونس أو خلال تدريسه في جامعة جوبا بجنوب السودان أيام محنة الحرب الأهلية. 
كان حلمي يعرف عن قرب كل الزعامات الإفريقية الكبرى التي قادت حركات التحرر أو ساهمت فيها، من العملاق الجنوب أفريقي نلسون مانديلا إلى جون قرنق قائد الجنوب السوداني، انتهاءً بسياس أفورقي الرئيس الأريتري الحالي الذي كان من أعز أصدقائه. 
قال لي مرة: «إن المشكل الذي تعاني منه العلاقات العربية الإفريقية هو كون العرب عاجزين عن استيعاب الروح الإفريقية، يبحثون عن أنفسهم في الوجوه الإفريقية، والحال أنهم شديدو الاختلاف عن هؤلاء الأعراب». مقولة «الأعراب» لم يكن شعراوي يستخدمها استهزاءً ولا تهكماً، وهو المفكر القومي العروبي الذي ظل وفياً لذكرى جمال عبد الناصر دون تعصب أيديولوجي أو دفاع دوغمائي.
شاركتُ مع شعراوي في ندوات فكرية وعلمية عديدة حول الشؤون الإفريقية، في القاهرة ودكار ونواكشوط وتونس.. وكنتُ دوماً أستشعر الاحترامَ الفائق الذي يكنه الباحثون والمثقفون الأفارقة لهذا الرجل الذي خصص أغلب سنوات عمره وكامل قوته وجهده للقارة السمراء. 
أسس شعراوي في القاهرة مركزاً للدراسات العربية الإفريقية يُعنى بشؤون القارة، أصدر أعمالاً علمية عديدةً، ونشر دوريةً رصينة، وخصص جائزة تشجيعية للدراسات الإفريقية. كما أن شعراوي كان له دور ريادي في كثير من المشاريع البحثية والعلمية الإفريقية، ومن بينها تأسيس «مجلس البحوث الاجتماعية في أفريقيا» الذي هو شبكة نشطة تحتضنها العاصمة السنغالية داكار، وكان لسنوات طويلة من شخصياته القيادية. 
لم ينحصر اهتمام حلمي شعراوي في الشؤون السياسية والاجتماعية الإفريقية، بل كان له اهتمام فائق بالثقافة الأدبية والفنية، وقد حرص كل الحرص على توجيه نظر المؤسسات العربية إلى المخطوطات الإفريقية المكتوبة بحروف عربية، مبيناً أنها الدليل العلمي والموضوعي على عمق التأثير العربي في الثقافة الإفريقية، حتى في المجتمعات غير المسلمة التي شكلت اللغة العربية جزءاً أساسياً من تراثها المكتوب.
وفي السنوات الأخيرة، انقطع حلمي، بعد أن أوهنه المرض وأقعدته الشيخوخة، عن جلسات منتدى صحيفتنا الغراء «الاتحاد» التي كانت منبره المفضّل لسنوات طويلة. بيد أنه حافظ، إلى ساعة رحيله، على نفس الشعف بالقضايا الإفريقية، حتى بعد أن اضطر إلى ملازمة بيته. كلما قابلته في السنوات الأخيرة، وجدتُ عنده مشروعاً بحثياً جديداً يتعلق بالثقافة الإفريقية، وكنتُ أشفق عليه من هذا الهم الثقيل، فيجيبني: «يا أخي من للأفارقة غيرنا؟ الجميع تنكّر لهم.. أما أنا فسأظل أفريقياً إلى آخر يوم في حياتي».
رحم الله حلمي شعراوي.. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

*أكاديمي موريتاني