تعد الساحة الافتراضية بيئة غير منعزلة عن الشؤون الدولية، وتتحول تدريجياً للمحرك الأساسي لسياسات القوى العظمى في نظام يتسم بالفوضى الخلاّقة، وهو تماماً ما يحدث من خلال الشبكة العنكبوتية، وتسخير آخر ما وصل إليه الإنسان في علوم الحاسوب والشبكات الالكترونية، وتطورات تجعل الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات الكبرى قزماً في مواجهة موجات معرفة عملاقة يكاد يكون التغيير فيها شهرياً. 
ومن جانب آخر، تنمو شبكة الويب بشكل كبير وكذلك حجم البيانات التي تولّدها البشرية عاماً بعد عام، ويمثل هذا النمو تهديداً وجودياً لاحتكار الشركات والحكومات الكبرى للسيطرة على أفراد المجتمعات في العالم بطبيعة الحال، وخاصةً عندما تظهر تقنية لإضفاء اللامركزية على هيكل سلطة النخب، فإن تلك النخب نفسها ستحاول ملاءمة تلك التكنولوجيا للاحتفاظ بالسيطرة والحفاظ على النظام، وهذا هو السرد الأساسي لمعرفة كيف ستتقارب الرأسمالية والجغرافيا السياسية والحركات الناشطة السرية، وتشن حرباً على ساحة المعركة المفتوحة على شبكة الإنترنت، ومن ثم تفرض تداعيات تلك المعارك طبيعة العالم الرقمي على مدى العقود القادمة. 

وعلى مدى العقود التالية، ستواصل العديد من شركات الويب امتلاك الإنترنت من خلال التأثير بشكل كبير على الإعلام، والاستمرار في شراء الشركات الإعلامية والاستحواذ على ملكية وسائل الإعلام بصورة شبه كلية، وستفرض عليها الجهات الحكومية المعنية التعاون، و«بلقنة»َ الويب من أجل الأمن القومي للأمم. وبينما ترغب الشركات في التحكم في تجربة الويب للحصول على أرباح أكبر، فإن الحكومات بدورها لديها أجندات أكثر قتامةً وتعقيداً وغموضاً وفرض أجندات خاصة تعبر عن مصالحها، وهنا ستتعامل الدول مع مفهوم السيادة التكنولوجية، حيث ستتجه الدول للسيطرة على بيانات ليست لمواطنيها فقط، وإنما لمواطني بقية دول العالم من خلال نشاط الويب وتملك إسرار عولمة المزاج العام. 
ونتيجةً لذلك قام القادة السياسيون في جميع أنحاء العالم بتوجيه نقد مفتوح لدولة مثل الولايات المتحدة، وبدأوا أيضاً في الاستثمار في طرق تأميم البنية التحتية للإنترنت في دولهم، ومثال على ذلك إعلان البرازيل عن خطط لبناء كابل إنترنت من أراضيها إلى البرتغال لتجنب مراقبة وكالة الأمن القومي الأميركي، ولقد تحولوا أيضاً من استخدام Microsoft Outlook إلى خدمة مطورة من قبل الدولة تسمى Espresso، كما أن الصين أكملت شبكة اتصالات حكومية بطول 2000 كيلومتر تقريباً غير قابلة للاختراق، تمتد من بكين إلى شنغهاي مع خطط لتوسيع الشبكة في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030.
ووافقت روسيا على قانون يجبر لشركات الويب الأجنبية تخزين البيانات التي تجمعها عن الروس في مراكز البيانات الموجودة داخل روسيا لأسباب تتعلق بالأمن القومي، وإدراك مدى قدرة الآخرين على تحريك الشعوب، بل إحداث تغيير جذري لإرادتها الوطنية، ولتوجهاتها وأذواقها ومشاعرها وردود أفعالها نحو حكوماتها، وبالمقابل الميل لثقافات الحكومات الأخرى.
علاوةً على ذلك، بدا واضحاً أن التركيز على اتجاهات تأميم الويب المستقبلية المركزية للتحكم في البيانات بسهولة أكبر، وإجراء المراقبة عبر توطين جمع البيانات، وتنظيم الويب لصالح القوانين والشركات المحلية هو جزء مهم من أمن الدول واستقرارها، وهو ما ينم عن نضوج في فهم سبل وطرق الهيمنة الحديثة التي لا تتطلب تسليحاً مادياً، بقدر ما تتطلب وعياً ونضوجاً كلياً عن طبيعة المخاطر والتهديدات المستقبلية للأمن الرقمي خارج نطاقه التقليدي، من التصدي للهجمات المباشرة ومكافحة صعود الشبكة العميقة والمظلمة، والتي تمكن أي شخص من الوصول لمواقع غير مرئية لمحركات البحث، ونتيجة لذلك يظل غير مرئي إلى حد كبير للجميع باستثناء أولئك الذين يعرفون ما الذي يبحثون عنه، ولا غرابة أن يبلغ حجم شبكة الويب العميقة 500 ضعف حجم الويب المرئي، الذي يصل إليه الشخص العادي من خلال محرك غوغل على سبيل المثال، وهي أداة متنامية للقراصنة والناشطين، وهي أدوات القراصنة المتخصصة التي ستصبح سائدة بحلول عام 2025.

* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات