يتساءل المراقب للمشهد الغربي، الأوروبي والأميركي معاً، عن أسباب الأزمات التي تتصاعد في الأفق في العقدين الأخيرين، وما إذا كانت جذورها مادية أم روحية، وبلغة أكثر تفكيكاً، هل القلاقل التي تضرب أوروبا وأميركا، تعزى إلى عوامل إقتصادية فحسب، أم أن هناك فراغاً روحياً ما قاد إلى هذه الأزمات المتراكمة؟ التساؤل ليس بعيداً عن أجواء شهر رمضان الفضيل، حيث الروحانيات تعبق الأجواء، من خلال الصوم والصلاة والزكاة، التراحم والتعاضد والمودات المتبادلة، ما يخرج ملايين الصائمين من ضيق الإيديولوجيات، إلى رحابة الإيمانيات. يحتاج التساؤل المتقدم للغوص عميقاً في التغيرات التي جرت في قلب المجتمعات الغربية، لا سيما بعد الحرب العالمية، والتي أفقدت الأوروبيين الكثير جداً من ثوابتهم الروحية والإيمانية. خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر دولة مثل فرنسا، والتي كانت تعتبر الابنة البكر للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وقد أصابتها العلمانية المغرقة في تطرفها إلى درجة تنكر نسباً بالغة منها لكل ما هو روحي ووجداني.
في هذا السياق، برزت جماعات الشباب الباحث عن معنى للحياة من غير هدى، ولما لم تجد هناك راحتها، مضت في طريق الإلحاد المعاصر، لتنتكس تالياً إلى اليمين المتطرف بعد اليسار الذي لم يفلح في مداواة جروح الفوقية الأوروبية التاريخية. 
إن نظرة سريعة اليوم على حال ومآل الكثير من دول القارة التي عرفت بالتنوير، يؤلم النفس، ومشاهد فرنسا التي تحترق، دليل على وجود عطب شديد في الروح الأوروبية. من فرنسا إلى ألمانيا، نجد جرحاً آخر في النفس الألمانية، فها هي السلطات الحكومية تقوم بمطاردة جماعة الرايخ الرابع، أي أولئك الذين يحاولون إحياء سيرة الرايخ الثالث النازي مرة جديدة، بكل ما تحمله من معان ومبان، لرفض الآخر ولإقصائه، وصولاً إلى الخلاص منه نفساً وجسماً. على الجانب الأميركي، نجد خواء مماثلاً، ففي داخل الدولة، العلمانية الهوية، نجد هوى دينياً متمكناً من العقول، إلى درجة غير معقولة عقلاً أو عدلاً، ما سمح لبعضهم ذات مرة بالقول إن الحضارة الغربية وصلت إلى قمة التاريخ أو منتهاه، بحسب فرانسيس فوكاياما، فيما ذهب آخر، إلى تقسيم العالم تقسيماً «مانوياً»، بين أهل الخير وأهل الشر، وفسطاطين أرجع أصولهما إلى العقائد الدينية، والتي هي براء من تلك التصنيفات غير المجدية، ولا ينتج عنها سوى المزيد من الشقاق والفراق. 
الناظر إلى جنبات أميركا اليوم، يستشعر قلقاً بالغاً من العنصرية المتزايدة، والتشظي العرقي والطائفي الذي يتمدد، مهدداً الاتحاد الفيدرالي أول الأمر، ما يعني أن إنسلاخات بعينها قد تكون قادمة عما قريب، وهو ما نراه في تكساس وكاليفورنيا، والمخاوف من المواجهات في إنتخابات الرئاسة 2024 مرعبة بالفعل. هل كان التطرف في العلمانية وسحق ومحق كل ما هو إيماني وروحاني أحد أسباب أزمة الغرب؟ 
غالب الظن أن ذلك كذلك، وهو ما توقف عنده الفيلسوف الفرنسي، ريجيس دوبرييه، في مؤلفه الشيق «الأنوار التي تعمي». 
أزمة الغرب سوف تتعمق، لا سيما مع تقلص النفوذ التقليدي حول العالم، وزيادة رقعة الحضور الآسيوي، بقيادة الصين، ومع الأزمة يخشى المرء من نظريات الهروب إلى الأمام، ومخاوف من إشعال الحروب الخارجية، للخلاص من الأزمات الداخلية، فأنظر ماذا ترى. 

*كاتب مصري