كان عالم الاجتماع الفرنسي «أوليفيه روا» قد نبَّه في دراساته الأولى حول ظاهرة الغلو والتشدد في الديانات العالمية الكبرى إلى العلاقة العضوية بين التطرف الديني والانسلاخ من التراث الثقافي ومن التقليد التأويلي، بحيث إن الجماعات المتشددة تدّعي وهماً العلاقةَ المباشرةَ بالنص دون توسط، وتلغي كل السياقات التفسيرية والتنزيلية للنص في الواقع والتاريخ.

وفي كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «تسطيح العالم.. أزمة الثقافة وهيمنة المعايير»، يذهب «روا» إلى أن ما نشهده راهناً في مختلف المجتمعات والبلدان هو انهيار مفهوم «الثقافة» نفسه الذي هو الأرضية العميقة للحمة الاجتماعية.

ما يعنيه «روا» بالثقافة هنا هو معناها الأنثروبولوجي المحوري، أي مجموع السلوكيات والنظم القيمية والمؤسسية التي تحدد طبيعةَ مجتمع ما وتميزه عن غيره. فما نشهده راهناً ليس قيام ثقافة كونية جديدة أو بروز أوضاع تثاقفية على أنقاض ثقافات مهزومة أو متجاوزة، كما يحدث كثيراً في التاريخ، وإنما انهيار الثقافة نفسها الذي هو أخطر وأبعد شأواً من انحسار الأيديولوجيات الذي كثر الحديث عنه في نهاية القرن العشرين.

ولئن كان روا قد استخدم مقولةَ «أزمة الثقافة» التي هي عنوان أحد كتب «حنة أرندت»، فإنه ذهب أبعد من أطروحة الفيلسوفة المذكورة في نقدها للانتقال من ثقافة السؤال والتصور إلى ثقافة الدعاية والتعبئة. ما يقصده روا هو أن العالَم شهد في العقود الأخيرة ظواهرَ ثلاث متداخلة هي: التفسخ الثقافي الكامل، والترميز التواصلي، والتقنين المعياري.

ولقد ارتبطت هذه الظواهر بمسارات كبرى هي: الحركة النيوليبرالية التي حولت مختلفَ أوجه الوجود الإنساني إلى سلع تجارية، والنزعة الفردية الجذرية التي نقلت الإنسان من ذاتية الوعي العقلاني إلى ذاتية الرغبة الموغلة في الخصوصية الضيقة، والصناعات التقنية الكبرى التي تقوم على مبدأ الرقمنة الشاملة للوجود البشري.وكما أن الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي تحولت إلى مجرد دوائر ثقافية مغلقة متجاورة لا رابط بينها، وإن كانت تتغذى من نفس المتجر الثقافي الكوني دون تمحيص عقلي أو برهاني، فإن التواصل بين البشر أصبح موضوع ترميز تقني شكلي يستخدم الإشارات البصرية ويستعمل اللغة في حدودها الضيقة.

ومن هنا يتوجب التوسع في وضع قواعد التبادل والتواصل وفق معايير الخصوصية وحقوق التميز الفردي. إن النتيجة الكبرى لهذه التحولات هي، حسب روا، تحلل النظم الاجتماعية التي تعاني في كل الدول الصناعية المتقدمة من أزمة عميقة، تبرز في انهيار المؤسسات العمومية وطغيان النزعات الشعبوية المدافعة عن الهويات الخصوصية المغلقة التي هي النقيض الموضوعي لأفكار الكونية والعقلانية والذاتية التي قامت عليها الحداثة الغربية.

وإذا كانت بعض الأقلام تحدثت سابقاً عن مسار «الخروج من الدين» في الغرب، فإن الوضع اليوم يتمثل في انسحاب مسار نزع القداسة عن القيم الحداثية نفسها، وفي مقدمتها مقولة التقدم التي هي ركيزة الحداثة الأوروبية. ما نريد أن نبينه هو أن أطروحة روا تستوقفنا في ثلاثة مستويات كبرى:

أولاً: ما نشهده في عالمنا العربي الإسلامي من انفصام خطير بين مقوماتنا الثقافية الجوهرية والثقافة المعلبة الرائجة المتقاسَمة على نطاق واسع. لا يعني الأمر هنا الدفاع عن الجمود التراثي، لكن التجربة بيّنت لنا أن محاولات الانفصال عن التقليد والقطيعة معه تفضي في غالب الأحيان إلى عكس ما تنشده، بحيث إن التجديد والتحديث لا يمكن أن يتما إلا بالقراءة الثرية والنفَس التأويلي الخصب للمدونة التراثية التي هي الأثر الحي لديناميكية تأويلية طويلة ومتنوعة تفتح آفاقاً رحبةً للإبداع والاجتهاد.

ثانياً: ما نلمسه من قصور وفقر في الشخصية الثقافية ناتج عن ضعف ومحدودية الاطلاع على عيون المعارف والآداب والعلوم في تراثنا الثقافي. ومن هذه العيون أمهات الشعر من معلقات جاهلية ودواوين أموية وعباسية وأندلسية، وكتب الإمتاع والمؤانسة والحِكم والمأثورات، فضلاً عن كتب السلوك والأخلاقيات والفضائل.

ثالثاً: طغيان الثقافة الرقمية السريعة التي تخلق وهماً زائفاً بالمعرفة الموضوعية والاطلاع الشامل، في حين أنها تدفع للكسل العقلي، وتضعف القدرات النقدية والعقلانية، وتنتج ثقافة هي أقرب إلى الرموز الشكلية التي تحدث عنها روا. قبل سنوات، كان الحديث يدور حول «صراع الثقافات»، وشاع أوانَها وهمُ الصدام بين الثقافة الغربية بجذورها اليهودية المسيحية والثقافة الإسلامية. ما يتبين اليوم هو أن التحدي يكمن في استعادة مفهوم الثقافة نفسه الذي أصبح إشكالياً وعصياً على التحديد.

*أكاديمي موريتاني