يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن روائع الأدب العالمي أربع: الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيشوت لسرفانتس، وفاوست لجوته. ولمّا قرأ دستويفسكي رائعة سرفانتس «دون كيشوت» قال: لا يوجد في العالم عمل أدبي أقوى ولا أعمق من هذا.
هكذا حظيت رواية «دون كيشوت» التي نشرت قبل أكثر من (400) عام باهتمام غير محدود، ثم إنها تجاوزت في تأثيرها إلى حدّ أنها باعت أكثر من نصف المليار نسخة.
حظي الكاتب الإسباني الكبير «ميغل دي سرفانتس» بثقافة متنوعة، كان جزء منها قادماً من الجزائر، وجزء آخر قادماً من الأندلس، وهو ما جعل منه كاتباً واسع الاطلاع والتجارب، وجامعاً بين الثقافة العربية والإسلامية إلى جوار ثقافته الإسبانية الرفيعة.
تمثل مشاركة سرفانتس في الحرب ضد العثمانيين قرب إيطاليا محطة رئيسية في حياته، فما إن انتهى «الأديب القادم» من الحرب، وشرع في العودة من إيطاليا إلى إسبانيا بعد مشاركته في المعارك البحرية الدائرة هناك، حتى وقع في أيدي القراصنة، ليستقر مخطوفاً في الجزائر.
لم يكن أمام جندي البحرية سوى أن يكون عبداً، يتم بيعه في أسواق العبيد، غير أن ما كان بحوزته من رسائل توصية مهمة من قادة عسكريين كبار إلى البلاط الملكي في إسبانيا، هو ما جعل الخاطفين يفضلون إعادته مقابل فدية كبيرة مقدارها (500) أوقية من الذهب.
حاول سرفانتس الهروب، ولجأ إلى إحدى المغارات في الجزائر، وهي المغارة التي أصبحت مزاراً سياحياً في الوقت الراهن.. وقد نجحت عائلته بمساعدة الآخرين في جمع الفدية وإطلاق سراحه.
يتحدث مؤرخون عن أن التأثير الجزائري كان كبيراً عليه، فالسنوات الخمس التي قضاها هناك تعلم فيها بعض العربية، وسمع بقصص وحكايات الشرق، وبأبطال العرب والمسلمين، وبالأساطير التي أحاطت بأبطال وفرسان، وإن لم تتأكد حقائق بطولاتهم تاريخياً. يضاف إلى ذلك أن ولادة سرفانتس جاءت بعد خمسة وأربعين عاماً فقط من سقوط غرناطة، آخر مدن الأندلس، الأمر الذي جعله يسمع بحكايات الشرق في الجزائر وإسبانيا على حدٍّ سواء.
لقد وصل التأثير العربي في سرفانتس إلى الحدِّ الذي جعل بعض النقاد يذهب إلى أن «دون كيشوت» هو صورة قريبة من أبوزيد الهلالي، وأن سيرته الروائية قد تأثرت بالسيرة الهلاليّة.
تروي رائعة «دون كيشوت» قصة أحد النبلاء المهووسين بقصص الفرسان وتاريخ الفروسية، ثم يفقد ذلك النبيل قدراته العقلية، ليصبح عالقاً في الأزمنة القديمة، فيأخذ حصاناً ضعيفاً، ودرعاً وخوذة أصابهما القِدم، ويقنع جاره البسيط بأن يصحبه مقابل إعطائه جزيرة كاملة ليحكمها بعد الانتصارات القادمة.
ثم يمضي «ألونسو».. ذلك النبيل الذي فقد عقله ليحارب الشر في العالم بهذه القدرات العسكرية البالية.. حتى أنه يصل إلى قتال طواحين الهواء، حين اعتقد أنها ليست سوى الشيطان الذي ينشر بأذرعته الشرّ في كل مكان.. لتصبح جملة «يحارب طواحين الهواء» واحدة من أشهر العبارات التي تصف عبثية المواجهة.
كان «ألونسو» أحمق، لكنه كان طيباً، لم يملك العقل الكافي، ولكنه امتلك القلب الكبير، لم يكن بمقدوره أن يهزم الشرّ، لكنّه كان ذلك النبيل الذي قال للشرّ: لا.. في وجه من قالوا نعم.
* كاتب مصري